الخميس , 28 مارس 2024

“رسالة بدر” … قصة قصيرة بقلم مروة حمزة

= 3868

سيدي القاضي مر على حبسي سبعة عشر يومًا ، مرت علي وكأنها سبعة عشر عامًا هما سنوات عمري ، ولأن موعد الحكم علي قد اقترب ، أردت أن أترك رسالتي بين يديك فربما تصل لك يومًا إن لم تدفن في غيبات الجب ، ما سأقصه عليك هو كل ما ثقلت به نفسي أعوام تلتها أعوام ، أسمح لي أن أتحدث إليك وألا يضيق صدرك بي ، أعلم أنك ستصدر حكمك علي بالإعدام ولا أبالي ، فقد رأيت من الحياة ما لا يجعلني أتمسك بها..

إعذرني إن أطلت ، فأيامي التي عشتها في الدنيا هي عدد صفحات رسالتي التي خطها قلم سرقته من سجاني دون أن يشعر بي وبضعة أوراق بالية لف بها طعام القي إلي في محبسي.

سأعرفك بنفسي أولا ، أنا بدر ، فقط ” بدر” ، والاسم الذي لصق باسمي لا اعرفه مجرد “تستيف أوراق” ، اما اسم الشهرة “حماصة” عشت به بين الناس ، ملعونًا ، مذمومًا ، مكروهًا ، لم ينطق بأسمي على الألسن إلا ويتبعه أو يسبقه السب واللعن ، من يراني يقول بعلو صوته :” ابن بدرية” .. “ابن حرام” .. ملعونة البطن التي انجبته.

لا أقص عليك حكايتي كي ترأف بحالي ، فحالي من عدم ، لن تخرج امرأة للبكاء على قبري ولن يتذكرني إنسان إلا بالسوء لو تذكروني، فأنا لا شيء ،فانطق بحكمك وارض ضميرك وخلصني من قيودي ، فمنذ وطأت قدمي هذه الحياة والبؤس رفيقي والعار ظلي ، جئت لأمراه لم يتمناها أي طفل أن تكون له أمًا ،امرأة لعوب ، حظي العسر أن أولد من رحمها الملوث ، تركتني صغيرًا بعد أن لوثت اسمي وصار من يراني يشبهني بالكلب الدنس ، صرت بين الناس ” ابن حرام” ، لا يعرف لي أبًا ولا أصول ولا جذور ، “ابن حرام” كلمة تتردد أمامي في كل مجلس وكل مكان ، منعوا اولادهم من اللعب معي ، لفظتني البيوت والمجالس.

فأنا ابن امراة حملت من قاذورات البشر ما تتسع له صناديق قمامة العالم ، ورثتني الخزي والعار ، كرهتها حد الموت ، تركتني صغيرًا وسلكت طريق الانحراف ، عرفت بين الناس بـ “بدرية الراقصة” ومن لا يعرفها وهي أشهر من النار على العلم ، أغواها المال والجمال ، ولعب الشيطان بعقلها ، شاهدتها بين أحضان الرجال ، سمعت ورأيت مالا تتحمله أذن و لا تطيقه عين.

حولت مسكننا لوكر تمارس فيه الرذيلة مع من اصطحبتهم من الرجال ، ومن وقع في فخها الملعون ، لم تكن عادتي أن أتبادل الأحاديث مع هؤلاء الغرباء الذين رأيتهم منذ صغري في مسكننا ، فكل ما جمعني بهم أن افتح لهم الباب لتقابلني نظرات الاستهتار والاحتقار يلقونها علي من عليائهم وأنا طفل صغير أمد رقبتي وانظر لأعلى كي أراهم وعلى شفتي ابتسامة بلهاء ، فإذا بأحدهم يبثق على وجهي وينهرني بصوته العالي لاختفي من أمامه ، وما جمعني بتلك المرأة التي جعلها القدر أمي وبلاني بها ، أوامر ونواهي لا أول لها ولا أخر ، حينما تأتي بغريب تجره كالكلب من خلفها تأمرني بترك المنزل والجلوس أمام الباب وألا أدخل إلا حينما يخرج الغريب ولو تمنعت دفعتني للخارج بعد ضربي وإهانتي بأفظع السباب.

كنت أجلس بالخارج على سلم المنزل وأنا استمع لضحكات خليعة علياء ، تبث الرعب في نفسي ، ماذا يحدث بالداخل ؟

لم أنسى يوم وكنت في الخامسة عشر من عمري وقد قررت أن أختبيء تحت الفراش وهي عائدة كعادتها بعد منتصف الليل بصحبة حقيرٍ مخمورٍ مثلها ، لك أن تتخيل سيدي وأنا بهذا العمر الصغير أرى أمي في حالة سُكر ومعها هذا الأبلة وقد لف يده حول ظهرها وجذبها له بشدة ، فأطاعته منتشية ، وظل يلعق وجهها ورقبتها ككلب يلحس عظمة ويدفعها فوق الفراش الذي اختبأت بأسفله ليصطدم برأسي فلامس ذقني الأرض وقد صرخت من شدة الألم .

كانت صرختي كافية ليشعران بي ، وإذا بالرجل يرفع الغطاء الذي كان يخفيني لينظرا إلى بنظرات ملأها الشر والغل ، وبدون رحمة أو شفقة يجرني ويرفعني ليصفعني بيديه الثقيلتين فتتساقط الدماء من وجهي منهالا علي بالضرب و الشتائم أمام أعين أمي ، تمنيت لو انقذتني من يد هذا الوحش ، لكنت سامحتها ونسيت كل ما مضى ، تمنيت أن تأخذني في حضنها كأي أم ، ولكنها لم تفعل ،بل تركتني لهذا الهمجي ،متشفية في بل وتوصيه بالمزيد ، ساعدته في إيذائي وأخذت بسجار أشعلته وأطفأته في وجهي ، صرخت صرخات مدوية فكتموا انفاسي كي لا يسمعني الجيران ، كدت اختنق فأزاحت يدها وطلبت منه أن يتركني حتى لا أموت في يده ويفتضح أمرهم ، امسكت بي كمن يمسك بفأرًا وألقت بي بالخارج مهددة ومتوعدة بألا أعود إلا حين تأمرني بالدخول ، وألا أتفوه بكلمة أمام أحد من الجيران.

هل شعرت بما شعرت به سيدي القاضي ؟؟ .. ..

أرجوك سيدي قبل أن تعرف من أنا ، فلم يكن لك حياة مثل حياتي ، ولا أم مثل امي ولا أب مجهول مثل أبي ،، عرفت منهم ” كيف صرت” ولكنك لم تعرف مني ” كيف كُنت” ، ولتحكم علي بالعدل أترك بين يديك رسالتي ..

ولو عدلك قتلي ،فمرحا وفرحا بخلاصي من حياة لا أبغيها ولا أبكي عليها ، ولكني أخشى عليك من ظلمي وأنت تقف بين يدي الله ،، كتلك المرأة التي انجبتني ، فما أكتبه لك ليس من وحي خيال ، ولا لتحنو ويرأف قلبك بي ، ولكني أردت إفراغ جعبتي من ثقل في نفسي ، وإلقاء أحمالي قبل أن أترك هذه الدنيا وأرحل.. .. كتبت إليك لتعرف من الظالم ومن المظلوم .. من الجاني ومن الضحية.

فلا أخاف الموت فلن أرى في قبري شيء يخيفني كشبح العجوز بثوبها الأسود الرث التي أرعبتني أول ليلة هربت فيها وافترشت الرصيف بكراتين لملمتها لأنام عليها واتغطى بها لتقيني من البرد ، وقد صرخت بوجهي فظهر فمها الخالي من الأسنان إلا واحدة بدت لامعة في جوف كهف مظلم وعميق.. أفزعتني وهرولت بعيدًا عنها فقد بدت لي كشبح مرعب كانت أمي تخيفني دائمًا منه ، شبح أبيض الشعر غائر العينين قصير القامة يلتهم الأطفال في سني لو تحدثوا بما يحدث في مسكننا لأي أحد.

الموت سيكون لي راحة من عذاب الدنيا ، سيحنو علي الله ، وسيغفر لي ، مالم يغفره لي البشر ، نعم هذا ما قاله لي شيخ مسجد السيدة زينب حينما لجأت إليه هاربًا من العجوز عند سماعي لتكبيرات صلاة الفجر تعلو السماء وتنادي على المصليين ، اتذكر بأني هرولت للمسجد وصليت مع المصلين وركعت مع الراكعين ، بكيت كما لم أبكي من قبل ، شعرت بطمأنينة وسكينة حينما مسح الشيخ على كتفي يهدأني ويطمئني بأن الله سيهدين ، فقط علي أن اسجد واقترب.

سجدت واقتربت بعد أن عرفت “عَلي” .. بائع السبح والمصاحف والبخور.. ” علي ” الذي أحاسب اليوم على قتله !! تسألني لماذا قتلته ؟؟
قتلته لأنه يستحق الموت ، وقد حكم على نفسه بما حكم به على غيره .. ولم أكن سوى أداة تنفيذ ، فهذا دوري الذي أسنده لي “علي” قتل الفساد ورؤوس الكفر ..

لا تحاسبني على قتل “علي” ؟ بلا اسألني من هو “عَلي” ؟

سيخبرونك بأنه مناضلا ثوري ،وأقول لك أنه جهاديا تكفيري تعرفت عليه حين عملت في قهوة بالميدان ،وكنت أتسكع باحثًا عن مكان يأويني وعملا يغنيني عن الرجوع لـ”بدرية” امي ، رأيته يخطب في الشباب وتصغى له الآذان وتصفق له الأيدي ،، ” عَلي” الذي حملني رسالة الجهاد ضد الكفر والفسق ، وضمني لصفوف الإخوة لمواجهة الطغاه ورؤوس الكفر والفساد ، وإذا به أحد رؤوس الفساد والانحلال.
فلا تصدقهم سيدي القاضي، “فعلي” فاسق زنديق كالرجل المخمور الذي ضربني وصفعني ، “عَلي” مثله ولهذا استحق الموت على فسقه وكفره ، يدعونا للجهاد ونيل الشهادة وهو يغرق في لهوه ومجونه ، راقبته فعرفت أنه على علاقة براقصة عاهرة تعمل في ملهى ليلي تمتلكه “بدرية” .

سيخبرونك أن “بدرية” الملعونة بريئة ، فلا تصدقهم سيدي القاضي ، وأقول لك أنها رأس الشر وظل أبليس على الأرض ..
نعم سيدي القاضي فجرت الملهى بـ”عَلي” و”الراقصة” ، بـ”الرجل المخمور” و”بدرية” ، فكلهم على كفر وفسق وفجور ، لا تأخذك بهم رحمة ولا شفقة ،ولا تصدق من يدافعون عنهم ، فمخبأ “علي” السري لا يقل دناسة عن منزل بدرية المشئوم ، خطبه النارية وكلماته الرنانة كحركاتها الخليعة وضحكاتها العالية ، قالوا لي في الجماعة إن “الإثم لمن نكث” فقلت : بل” الموت لمن نكث” ،ولم يفهمونني ، وقد نكث “علي” وسار في طريق الفسق والفجور والانحلال فاستحق الموت بلا رحمة ولا هوادة ، ونكثت “بدرية” فاستحقت ما استحقه “علي”.
قتلت رؤس الكفر وفجرت الملهى بمن فيه ، فعن أي هول فيما فعلته تحاكموني، وعلى من تبكون ؟! ،،فهم ليسوا بمظاليم ولا ضحايا ، بل أنا الضحية والمظلوم …

ألم تزرع أمي القهر والخوف بداخلي ، ألم تنصر شيطانها علي و تطردني وتقهرني ،، ألم يأن الآوان لقتلها وقتل كل راقصة ماجنة عاهرة مثلها.
ألم يزرع علي بداخلي ” الجهاد .. الجهاد ” ، ألم يحرضني على قتل أبرياء صور له عقله بأنهم فاسقون وكافرون ،وأنا والله لم أفعل إلا ما أمرني به “علي” ،، لأنال الشهادة التي وعدني بها ، ولأسكن جنتي ولو بعد حين ، نعم جنتي التي لم أراها على الأرض ، جنتي التي تنتظرني وبها رب سيرحمني ، جنتي التي ستمتليء بالحدائق والرياحين لتصطفت عن يميني وعن يساري حور العين ، وتجيئني الملائكة طائعين ملبيين .. .. .. عرفت يا سيدي لماذا قتلت “علي” ذاك الشيطان رأس الكفر والانحلال ..
كنت أتمنى حياة مثل أي حياة إلا حياتي ، وأم مثل أي أم إلا “بدرية” ، وأب مثل أي أب إلا ” أبي المجهول” ، وصديق مثل أي صديق إلا “علي”..
فلما اتمسك بالحياة ولم أرى منها ما يسرني ،أي وطن اخاف عليه يا سيدي وليس لي وطن ، لا أب ولا أم ولا جذور.
اكتب اليك سيدي القاضي لاخبرك بأن ما سلكته من طريق مظلم لم يكن من اختياري بل كان قهرًا وظلمًا أجبرت عليه إجبارًا
وما أريده منك أن تعرف الحقيقة سيخبرونك بأنني قاتل وسفاح وإرهابي حد الجنون ،،
ستهلل المنابر والفضائيات والصحف لإعدامي ولن يدافع عني أحد لأنني ” إرهابي “كما يصفوني و لأنني “ابن بدرية” “ابن حرام ” العار الذي لازمني طوال حياتي والكابوس الذي سينتهي برحيلي .. .. لأقابل وجه كريم ليغفر لي ذنبي إن كنت أذنبت ، ولأشكو له ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس أجمعين ، فهو الذي خلقني وهو الذي سيرحمني ،، ها أنا أرثي نفسي وأترك كلماتي بين يديك وثيقة شاهدة على سنواتي السبعة عشر الماضية .. ..
فنفذ حكمك في أيها القاضي وخلصني من شرور الدنيا
وأعلم أنني قُتلت ، لينجو أمثال ” علي” و”بدرية” ..
احكم علي سيدي القاضي بالإعدام ، فلا أنتظر البراءة ولا أحلم بها ، لقد لفظتني الدنيا ولفظتها ..

شاهد أيضاً

أوبرا غارنييه … جولة في دار الأوبرا الفرنسية بباريس

عدد المشاهدات = 253 بقلم الكاتبة/ هبة محمد الأفندي دار الأوبرا الفرنسية بباريس المعروفة بأوبرا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.