الأحد , 5 مايو 2024

د.ماجدة غضبان تكتب: ثقافة الجسد شرقا..!

= 1563

Magda Ghadban


بمجرد مغادرة الرحم، يوضع الجسد البشري تحت عناية القيم الاجتماعية و الاقتصادية التي تحاكمه، و تحكمه، و تتحكم فيه، فهو المجسم الوحيد الماثل بصريا امام العين، والمعبر عن الوجود المادي للانسان..

وبسبب هذه الابعاد المرئية التي تسبق الإدراك الذهني لمعنى الوجود نفسه بالنسبة للفرد، يتم التعامل معه كأول إناء للتفاعل بين حضوره الواضح وبين ما سبق من معطيات تاريخية، وثقافة موروثة، و قيم اقتصادية تحدد ماهية وجوده على أرض الواقع.

قيم استقبال الجسد الأولى هي قيم اقتصادية صرفة، فإلقاء الجسد بظلاله على ما حوله استجابة للنور الاول، هي اللحظة التي تشرع فيها القيم الاقتصادية بإلقاء أكبالها عليه.

فهو إما مغضوب عليه حيث لا مبررات اقتصادية لوجوده اصلا، و إما محاطا بعناية التكنولوجيا مع الإذعان لشروطها كاملة…

ومع الاختلاف الحضاري هنا و هناك، فإن الجسد لا يكاد يغادر موضعه كميدان للصراع الأزلي بين السليقة، و الرضوخ للقيم التي ستطلق مجموعة منظمة من الرسائل والاشارات لتطويع الجسد وفق الإرث الثقافي المتراكم و المتغير باستمرار كممثل للنموذج المقبول اجتماعيا و زمانيا.

هذا يعني اننا لا نعرف عن اجسادنا شيئا كطين نقي لم يحفر عليه اي مسمار كتابته، لأن الطين ذاته قد نقش عليه أثر ما حوله و هو لم يزل بضعة خلايا في رحم ما.

فالجسد يحمل موروثاته الجينية دون رغبة منه، و يولد عليها، سوى ما سيحفر على مستقبلاته الحسية أوان ولادته لتصبح البصمات التي تحتضنه الختم الممثل لطغيان ثقافة ستصهره و تعيد تكوينه بما يناسب ديمومتها.

اننا نجهل اجسادنا بقدر ما تملي علينا المنظومة الاقتصادية اخلاقها، و نحن اذ نتبعها نهدم سليقته المتفردة وفق منحنى بياني متصاعد لتحل محلها ارادة الوجود الجمعي، ما يرتضيه لها و ما يرفضه.

تتراجع السليقة حتى تركن و تهمل في العقل الباطن، و قد تستفيق احيانا في احلامنا او ممارساتنا المموهة و السرية لتعود على هيئة تأنيب ضمير يجلد الجسد و يؤنبه على ما ارتكب من جرم في حق المنظومة الاقتصادية_الاخلاقية.

كل ما حولنا وجد قبل ان نعي ماهية الجسد، و نكتشف رغباته، و قد نصل حد العجز في الفصل بين ما تريده السليقة و ما يريده من دحرها ، و لا فرصة هنا للاحتفاظ ببعض ما كانت عليه.

هكذا فقدنا صلتنا بالجسد البشري منذ أمد بعيد، و غيبناه تحت اطنان من الموروثات الثقافية و الجينية لالاف من السنين، و اذ نتحدث اليوم عنه انما نستنطق الغياب الذي نجهله حتما.

ثقافة الجسد هي محاولة عمياء للوصول للمنابع النقية، و مع الضخ الالكتروني المرئي و السمعي حول ما يشكله الجسد من تواجد استهلاكي عبر تقنيات معقدة أصبحنا في أبعد نقطة عن استكشاف حقيقته.
——————-
* كاتبة عراقية.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 12394 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.