الجمعة , 17 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: الغرق ..بحثاَ عن حياة آمنة!

= 1498

Abdul razak Rubaiy


ذات يوم كنت مدعوا لمناسبة ثقافية في الجزائر، وعندما حان وقت الغداء اندسّ بين المدعوّين شاب أشعث أغبر، ملأ صحنه إلى الآخر، وجلس بالقرب مني ، وراح يأكل بشراهة ، ولكسر الصمت ، سألته إن كان من ضمن المشاركين بالفعالية ؟ فأجاب هامسا :كلا، فطلبت منه ايضاحا، أجاب" أنا في طريقي إلى أوروبا " ،ثم همس بأذني "  بوضوح أكثر، أنا  مهاجرغير شرعي " قلت له "أليس في ذلك خطورة؟ أجاب" لا توجد مشكلة، فإن وصلت إلى الضفة الأخرى سأعيش بقية حياتي بشكل أفضل، وإن متّ ، فسأموت غير مأسوف على حياة لا أجد ما أسدّ به رمقي" ، ثم حياني،  وغادر المكان قبل أن يفتضح أمره، فتمنيت له حظّا سعيدا!!

ظلّ وجه هذا الشاب الجزائري عالقا في ذاكرتي، واليوم استحضره ، وأنا أكتب هذه السطور التي دعاني لكتابتها  خبر قرأته عن "هشام " السوري الذي وقف على ضفة البحر في تركيا ليعبر المياه التركية وصولا إلى الجزر اليونانية ، في واحدة من حكايات الهاربين من الموت إلى المجهول بحثا عن ضوء الحرية، والأمن ،والسلام، والطمأنينة،  خارج دوائر مناطقنا  المعتمة،  كان"هشام" قد تأكد من وجود أهم ثلاثة مقتنيات لديه في حقيبته البلاستيكية ،وهي : جواز سفر، وهاتف خلوي،  وقلم ليزر ليبعث إشارة طلبا للنجدة إن سارت الريح حيث لا تشتهي سفينة جسده ، نظر إلى البعيد حيث  الجزيرة التي كان متوجهاً إليها هربا من الحرب الدائرة في سوريا، وكان عليه قطع خمسة كيلومترات سباحة متواصلة ليصل إلى تلك النقطة الحلم ، كما تروي  هانا لوسيندا سميث لصحيفة "التايمز" ، وقبل أن يغرق بعث إشارة بقلم الليزر إلى خفر السواحل الذين نقلوه إلى الشواطىء الأوروبيّة ،ولم تنته معاناته عند هذا الحدّ ،إذ احتاج لكي يصل إلى المانيا حيث يقيم حاليا ثلاثة أعوام ونصف قطع خلالها 11 بلدا !!

،ويظلّ "هشام" ابن الرابعة والعشرين عاما الأوفر حظا من الكثيرين الذين لفظت المياه أجسادهم ، فيذهب ضحيتها مئات اللاجئين ،أطفالا ، ونساء ، وبين حين وآخر تتحدث مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن أعداد الغرقى الذين زاد عددهم على  2500 لاجئ، من بين ما يزيد عن 310 آلاف لاجئ سوري عبروا البحر المتوسط إلى أوروبا، وشكّلوا أزمة في الإتّحاد الأوروبي الذي فوجىء بأعداد عطايا البحر من المهاجرين ،الفارّين من قبضة الموت ، ويرى  المحللون إن الهجرة الشرعية أصبحت واقعا يفرض نفسه..

 يقول الكاتب عبدالباري عطوان " من ينجو بروحه من القصف من هذه الجهة أو تلك، ليس أمامه غير ركوب البحر، أو الشاحنات المبردة بحثا عن ملجأ آمن له ولأطفاله" ، وصارت نشرات الأخبار لا تخلو يوميا من أمثال هذه الأخبار،.فكلما ضاقت المنطقة  بأعين أبنائها بما رحبت ،و"استحكمت حلقاتها"، كثرالهاربون من سعير الحروب، والأزمات التي تعصف بها، وارتفع أعداد الضحايا الذين يلقون حتفهم في البحر ،فيصبحون طعاما للأسماك ، وقد تتنشل شرطة خفر السواحل الأوروبية جثثهم، أو تلفظهم المياه لترميهم جثثا بلا حراك على الشواطىء التي كان بلوغها منتهى الحلم ، كما حصل مع الطفل السوري الذي انتشرت صورته عبر مواقع التواصل الإجتماعي بقميصه الأحمر، وبنطاله القصير، الذي رمته الأمواج على شاطئ يقع قرب مدينة بودروم السياحية في تركيا.

لقد  مررنا  نحن العراقيين بهذه المحنة، وما زلنا، مع أن الراية تسلّمها المهاجرون السوريون منذ اندلاع القتال في سوريا قبل أربع سنوات، وعلى الدوام هناك أفارقة، يبحثون عن ضوء في الضفاف الأخرى من البحر ،ضفاف توفّر العيش الكريم، وحريّة مناسبة ، ولكن دون ذلك خرط القتاد ،واقتحام الأهوال ، يقول الشاعر:

فيا دارها بالحزم إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال

وتبقى تلك "الأهوال " أحنّ على المهاجرين غير الشرعيين من أوطان تنام على أصوات قذائف ،وسياط جلّادين، وتصحو على مفخخات،وجوع،وأزمات،وصراعات لا تنتهي، لذا لم يبق سوى ركوب الخطر

وما حيلة المضطرّ الّا ركوبها

والبحث عن حياة آمنة في الضفة الأخرى ، إن كتبت النجاة لصاحبها ،وإن لم تكتب ،فقد انطفأت حياة إنسان غير مأسوف عليها، كما أخبرني المهاجر غير الشرعي الجزائري قبل أن يودّعني ، ويمضي إلى المجهول.
—————
* كاتب وشاعر عراقي مقيم بمسقط.

شاهد أيضاً

إنجى عمار تكتب: التحلي والتخلي

عدد المشاهدات = 482 نقطة واحدة فارقة كالحجر الصوان ارتطم بها رأسنا لنعيد اكتشاف أنفسنا. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.