الخميس , 28 مارس 2024

الاستثمار في الوعي

= 909

بقلم: مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

منذ الخمسينيات من القرن الماضي، احتلت فكرة التحكم بالعقول اهتمامَ السياسيين ورجال الأعمال، ويقال إنَّ هناك تجارب ناجحة في هذا الشأن.

كما يزعم البعض أنه توجد محاولات حثيثة من الشركات العالمية، وبعض القوى للمضي قدماً نحو مرحلة ما بعد الإنسانية حيث يتم السيطرة على العقول البشرية سيطرة تامة من خلال زراعة شرائح للتحكم بقرارات الإنسان، وتوجيهها كيفما يشاؤون، وإن في حروب الجيل السابع سيصبح الإنسان رقما مسلسلا ضمن قائمة من ينفذون الأوامر التي ستوجّه لهم عن بُعد.

وإن يبدو ذلك حلما من أحلام غرور الإنسان، ونزعته للسيطرة، فإن الواقع التاريخي يقول بأن مسألة السيطرة ممكنة دون الحاجة إلى تكنولوجيا مكلفة. فالحروب النفسية والاستعمار الثقافي والإستراتيجيات الناعمة نماذج ناجحة للسيطرة على العقول. ولعل مقولة نابليون بونابرت “هناك قوتان في العالم السيف والعقل” الذي استطاع أن يغزو العقول، ويغيّر من ثقافة دول آنذاك من خلال فرنسة ثقافاتها. مثلما أصبحت شبكات الإنترنت، والتواصل الاجتماعي والإعلام، والسينما، ومشروع عولمة الثقافة أدوات للسيطرة على العقول.

من السهل توجيه العقول والسيطرة عليها إن كانت لا تفكر، واستسلمت لتقبل الأفكار دون تفكير، أو تحليل عن مدى دقتها ومعقوليتها، فالإنسان غير الواعي عادة يصبح ضحية السيطرة والتوجيه .

ارتبط بناء الوعي بالقراءة، لأن القراءة تعطي للعقل مساحة أكبر لإجراء مقارنات، أمّا الوعي السمعي، فإنِّه يمنح مساحة للعاطفة، والمشاعر، لذلك نجد أن الأمة التي تعتمد على السمع، هي أقل وعيا من الأمة التي تعتمد على القراءة، والكتابة، فالثانية تقوم على أسس من المعرفة التراكمية، التي انبنت على أسس علمية، وتراكم معرفي ممن سبقها من الأمم، أمّا الأولى، فهي تعتمد على السمع، والأخبار، والمعرفة الناتجة عن النقل السمعي، دون تمحيص أحيانا وتقودها العاطفة. لذلك نجد أنَّ الشعوب المحبة للقراءة والمعرفة، ذات نتاج معرفي وعلمي أكبر ومجتمعاتها أكثر وعيا بوجودها.

لقد انقسم العالم إلى دول منتجة للفكر والعلم، ودول مستهلكة لنتاج العلوم، والمعرفة، الدول الأخيرة تعيش حالة من السبات العقلي، لأنها اعتادت تقليد الأفكار المستوردة، واستهلاك إبداعات الغير، ومبرمجة لعمل الأشياء، كما يفعله الغير، فلا فرق بين متعلم، أو جاهل، أو بين الفقير، أو الغني أصبح الكل لديه أفكار متشابهة عن كلّ شيء، وأصبحت التكنولوجيا تقدّم كل شيء حتى توقّف العقل عن النقد البناء، والتحليل، دون مساهمة حقيقية في الحياة. قليلون من يتلذّذون بالتفكير والصعود إلى مساحات فكرية غير مألوفة. لا ندرك أننا نائمون، وعقولنا خارج نطاق السيطرة، إن العقول النائمة هي وصف لحالة العقول في الدول المستهلكة للعلوم التي خضعت لسيطرة العقل على مدار العقود من قبل مؤسسات صانعة الوعي.

من أبرز المشكلات التي يواجهها الإنسان المعاصر، كثرة المعلومات التي بشكل، أو بآخر تساهم في تشكيل وعيه، فهو يتعرّض لكافة أنواع من ضخ الوعي عبر التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام، فهو يتعرض للوعي غير الأخلاقي، والزائف والمتعصب، كما يتعرض للوعي الأخلاقي، والوسطي والعاطفي.. إلى آخره.

إن بناء الوعي السليم، لا يقل أهمية عن الاهتمام ببناء الإنسان بدنيًا، وهي مسؤولية مشتركة بين الأسرة والمؤسسة التعليمية والدينية والثقافية والإعلامية. ومن المهم جدًا تغذية الإنسان بالمعرفة والحقائق السليمة، حتى يستطيع أن يقارن بين المعلومات الصحيحة، والمغلوطة مما يتيح له اتخاذ القرار الصحيح.

إن الوعي السليم حائط سد ضدّ الأفكار المنحرفة، والمعلومات المضللة؛ فالوعي يعني الانتباه واليقظة، وهو يعبر عن حالة من الإدراك، يكون فيها الإنسان مدركًا إدراكًا تامًا لكلّ ما يحدث حوله.

الوعي يجمع بين يقظة العقل، والقلب والجوارح كلها، ومن وجهة نظر فلسفية، فإن الشك يؤدي إلى اليقين؛ أي إن الشك يجعل الإنسان يفكر حتى يصل إلى الحقيقة، ولا يخضع للمسلمات، وبالتالي، فإن العقول النشطة هي وحدها القادرة على صدّ المؤثرات غير مرغوبة.

إن بناء الوعي السليم ليس من أجل مُجابهة المشكلات والشائعات فقط، فالوعي مطلوب حتى نتمتع بإنسانيتنا.المرأة تحتاج إلى بناء وعي بدورها في المجتمع والطفل يحتاج أن يكون لديه الوعي نحو التعلم المستمر، والتحلي بالسلوك الحميد، والشباب يحتاجون لبناء وعي نحو طرائق التفكير واتخاذ القرار، والوعي السيلم يعزز قدراتنا الذاتية في اتخاذ القرار، ويطور من مهارات التواصل مع الذات والمجتمع، ويزيد من إنتاجية الإنسان…

وتزداد الحاجة لطبقة من المثقفين، ذوي وعي بهموم المجتمع قادرين على استيعاب مشكلات المجتمع، ويساهمون في بناء وعي مجتمعي مكملين دور المؤسسات

من الضروري جدًا الرقابة على المحتوى خصوصا المحتوى الإلكتروني، أقلّها اشعارات التنبيه، التي تكون على شكل تذكير بالتبعات القانونية للنشر، أو إعادة النشر أو حجب المحتوى غير اللائق، وهذا مطبق في بعض الدول.

من التحديات التي تواجه بناء الوعي التربية في الأسرة والتعليم في المدارس والجامعات الذي لم يوكب مرحلة الثورة المعلوماتية، ولا يشجع على الإطلاع والقراءة والبحث، لذلك يسهل أن يقع الفرد ضحية الشائعات، أو أدلجة بسبب محدودية المعرفة، فالثقافة العامة، تنمي العقل، وتوسع مدارك الإنسان.

إنّ الاستثمار في بناء الوعي مشروع أمن قومي، وحماية للمجتمع، وتعزيز العقول للبناء والتنمية، فالثقافة والمعرفة تحول الإنسان من كائن موجود إلى كائن يدرك الوجود، يقول فيكتور هوجو” يمكن للإنسان أن يتعطل مثل السفينة، والمرساة هي الوعي، شيء حزين أن يكون من الممكن أن يتكسّر الوعي”.

——————
* باحثة عمانية.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 6203 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.