الخميس , 28 مارس 2024

مرفت العريمية تكتب عن: ثنائية البساطة والتعقيد

= 8787

يجرى النَّاس وراء الحياة المعقدة، ويكشفون عن حواجز كثيرة وقيود تحول دون العيش بالبساطة التي تحقق لهم الحرية، والسُّمو الروحي، فأصبحت الحياة بلا روح تفتقد للجمال، فالأفكار البسيطة في الحياة، والتي كانت يومًا ما تسعدنا، باتت بلا قيمة تذكر، وتحولت الحياة إلى سلسلة من الأفكار المعقدة التي استهلكت الروح والجسد والعقل، بمردود لا يرتقي بالنفس.

قبل أيام تابعت لقاءً تلفزيونيًا على قناة “ناشونال جيوجرافيك” عن مزارع شاب ذهب إلى المدينة لتحقيق الحلم والثراء، إلا أنَّه قرر العودة بعد أعوام قليلة إلى قريته، فقوبل بالرفض والاستهجان لهذا القرار، وفي الوقت الذي سئل فيه عن أسباب العودة للعمل كمزارع قال “في المدينة كنت أعمل ليل نهار لجمع المال ولم يكن المال يكفي إلا لشراء الطعام.. في مزرعتي لا أملك المال لكن أملك طعامي، ولن أموت من الجوع، لذلك قررت أن يكون مشروعي حيث طعامي، لم نعلم أننا فقراء إلا من الإعلام الذي علّمنا أن من لا يملك المال فهو فقير، وهذا غير صحيح فمن يملك الطعام والمأوى والأمان ليس فقيرا بل إنسانا بسيطا”.

إننا نعيش في عالم مجنون غارق في التعقيد، والأزمات التي لا تنتهي، أصبحت حياتنا على هذا الكوكب على كف عفريت. في العقود الماضية غزا التعقيد حياتنا، أصبحنا نركض وراء الحياة المُعقدة والمترفة، كي نحظى بتقدير من المجتمع.

فكرة الضيافة أصبحت تبذيراً وطعاما مهدورا، وفكرة الزواج أشبه بمراسم التتويج، وكابوس لمن لا يملك المال، فيتكلف حتى يظهر بالمظهر المناسب، فحكم العادة طغى على العقل والمنطق، وخرج عن نطاق السيطرة.

كل من يُفكر ببساطة في مجتمعاتنا المتحضرة المتكلفة، أصبح كالطائر الذي يُغرد خارج السرب أو كالسمكة التي تسبح ضد التيار يفسر البعض عدم السعي وراء الثراء وإقتناء الأشياء القيمة والثمينة منقصة وأحيانا تخلف حضاري، لدرجة أن البعض منَّا فقد القدرة على التفكير البسيط، ولم يعد يرى الأشياء نظرة مجردة خالية من التعقيد، أصبح من الصعوبة أن نفهم معنى البساطة في الحياة، فالحياة المادية ومُغرياتها العديدة أهلكتنا، وأبعدتنا عن الخيارات البسيطة في الحياة، فالتكلف وامتلاك أشياء كثيرة، قد لا نحتاجها دليل على المكانة الاجتماعية.

تمثل الحياة المعقدة دليل وجود لدى البعض من النَّاس، فيقيَمون ذواتهم بما يملكونه من أشياء مادية، لذلك يقضون حياتهم في جمع الألقاب والتحف والعلاقات وكل شيء حتى ينعمون بالراحة والسعادة. والبعض يربط بين فلسفة الحياة المعقدة والأمان النفسي، وهذا الشعور قد يكون شعورا مؤقتاً ومجرد إلهاء، يتغير مع الوقت، إلى الشعور بالخوف على فقدان الأشياء الثمينة التي جمعناها، والدخول في دوامة الشك والقلق.

أثبت التاريخ أن السعي وراء بناء الثروات، للتمتع بحياة رغدة وآمنة ماهو إلا وهم، فالحروب والمجاعات لم تحمِ الأثرياء من الفقر والعوز.

إننا لا نحتاج سوى القليل للبقاء على قيد الحياة، والتمتع بها بكل ما تحمله من جماليات. لا نحتاج أن نثقل أنفسنا بالديون ولا إلى سيارات فارهة لا نستطيع دفع تكلفة الاعتناء بها ولا نحتاج إلى منزل كبير بغرف تزيد عن الحاجة تمتلئ بالأثاث والتحف…، لكن بالرغم من ذلك لا يستطع الكثير من الناس أن يحظوا بمثل هذه الحياة البسيطة

مصطلح البساطة من المصطلحات التي شابها بعض اللغط، فالبعض يرى في البساطة الاعتزال عن الحياة والحرمان من الأساسيات والزهد والتقتير والانصهار في الآخرين وأن يكون الإنسان بلا هدف ولا أحلام، وهو خلاف ذلك فهو أن تعيش بفطرتك السليمة. البساطة فلسفة حياة قد يكون الحل الأمثل للكثير من مشكلاتنا، مع أن هناك من لا يتفق مع نهج البساطة كحل لحياة متوازنة، قد يأتي الوقت الذي نضطر أن نتخذه فلسفة للحياة لاحتواء المستقبل واستدامته. إنك تشعر بمتعة الحياة عندما تكون بسيطا، فطالما ارتبطت البساطة بالجمال والسعادة والرقي. بساطة التفكير، لا تعني إمكانيات عقلية محدودة، أو مهارات تفكير متخلفة، بل القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها المجردة، كما هي وبموضوعية كاملة وبشكل دقيق، دون إضافة أو زيف أو خبرات تجعل من الرؤية ضبابية.

وعندما نعيش حياة معقدة نشعر بقلق أكثر وخوف من المستقبل، نفقد قدرتنا على التفكير السليم، نخشى المغامرة بما نملك فنعيش تحت ضغط الماديات. وأحيانًا تقودنا الحياة المعقدة إلى التفسير المعقد للمشكلات التي نواجهها، وإلى الانخراط في سلسلة من الحلول المعقدة ، صعبة التحقيق، وضياع الفرص البسيطة والمتاحة حولنا، لأننا لا نرى الجانب الإيجابي من الأفكار، فقط نرى كل ما هو سلبي وصعب وغير ممكن، لذلك قد نتراجع إلى الوراء من جراء الأفكارالمُعقدة.

وعلى العكس من ذلك، فإنَّ أصحاب الحياة البسيطة يستطيعون أن يبتكروا الحلول بسلاسة ويسر، لأنهم يمتلكون مساحات حرة في التفكير، ويتقبلون كل جديد بمرونة متناهية حتى إن كانت أفكارا لا يتفقون معها لكنها تفي بالغرض.

يبدو لنا أن الاكتشافات والاختراعات أتت نتيجة التعقيدات، وأن الإنسان المبدع هو إنسان خارق للعادة، تدور في رأسه سلسلة من الأفكار المعقدة، إلا أن الواقع يقول إن معظم المكتشفات، كانت نتيجة طرح تساؤل بسيط، ومحاولة وضع فرضيات بأسلوب التفكير العلمي وأن أغلب الاكتشافات كانت نتيجة أسئلة بسيطة، فالبساطة والإبداع مرتبطان دائماً بأكثر الأعمال إبداعا تلك المبنية على فكرة بسيطة غير تقليدية.

كن سهلاً بسيطا فإن أجمل الأفكار تلك التي تداعب مخليتنا ونحن في حالة الاسترخاء، لذلك يحمل المفكرون والعلماء دفترًا صغيرًا أو قلمًا لتسجيل الأفكار قبل أن تهرب.

كانت البساطة خيارًا وحيدًا في السابق، وفي عالمنا اليوم يختار من أثقلته الحياة المادية الهروب إلى البساطة والطبيعة للتمتع بصفاء ذهني. يقال إن البساطة تأسر العقول قبل القلوب، فهي كأسلوب حياة تحمل بين طياتها سمات جميلة، كالرضا والقناعة وتبتعد عن التصنع والتكلف، فالبسطاء قد لا يملكون كل شيء لكنهم مقتنعين بما يملكونه، حتى في معايير الجمال والأناقة، فإنَّ الرقي يعني البساطة في المظهر والملبس.

أحيانًا نحتاج أن نتخذ موقفًا، لمواجهة الحياة المعقدة التي تنهش في أروحنا، وتقودنا إلى الهلاك كالقطيع، فنحن كبشر لا نحتاج من الحياة غير الأساسيات التي تحدث عنها إبراهام ماسلو عالم النفس الأمريكي، في نظريته للاحتياجات، وغير ذلك أشياء نقتنيها حتى تثقل كواهلنا، يقول إسحاق نيوتن إن “الطبيعة تحب البساطة، الطبيعة ليست غبية”!
————–
* كاتبة عمانية

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 6173 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.