الجمعة , 29 مارس 2024

مرفت العريمي تكتب: قطار المفاهيم وتحوّلات في التربية والتعليم

= 2015

راودتها ذكريات الطفولة وهي تجلس على كرسي المشاهد تراقب المشهد المرعب اليومي لقطار المفاهيم وهو يمر من أمامها هل أنا الوحيدة من تعتبر أن هذا التحول غير إيجابي أم يشاطرني الرأي الكثيرون؟

لقد حدث تحوُّل كبير في المفاهيم التربوية وهناك توسع أكبر في شيوع وتوّزع مسؤولية التربية بين أطراف شتى تتجاوز الألف!! نعم الألف فالقنوات الفضائية المجانية تجاوزت الألف، وفضاءات الإنترنت مثلها، ووسائل التواصل الاجتماعي على شاكلتها، والأقران، والكتب، والمجلات، والأفلام، والخادمة، والقائمة تطول.. كل يدلو بدلوه على مرأى ومسمع من الآباء والأمهات الذين هم في أحايين كثيرة يقفون عاجزين أمام هذا السيل المتدفق من الاتجاهات التربوية والثقافية.

أمام هذه المشاهد المرعبة أتذكر كيف نشأت أنا وأخوتي، وأدركت أن التربية مسؤولية عظمى ولا تنتهي بالإنجاب، أو بدخول الطفل المدرسة. فالتربية مشروع يحتاج إلى دراسة وخطط وبرامج يعدها الوالدان ويستمران فيها بالتزام مهما كانت خلافاتهم أو اختلافاتهم حتى يتأسس الأبناء على قاعدة متينة من الأخلاق والعلم – لله دركما – يا والدي..

لقد قاما بعمل شاق أشعر به اليوم، وأتذكر كيف كنت أنتظر عودته بفارغ الصبر، بقيت يقظة طوال الليل وأنا أنظر إلى الساعة وأحسب الدقائق والثواني ما هي حتى لحظات مرت، وأشرقت الشمس وقمتُ من فراشي وركضت إلى النافذة أنتظر عودته.. ها قد وصل نزلت مسرعة إلى الباب لأكون أول المستقبلين .. انفتح الباب وارتميت في حضنه وكلي شوق لسماع القصص ومشاهدة ماذا جلب لي والدي من رحلته هذه.

أتذكر الآن وبعد مرور أكثر من ٣٠ سنة كيف كان والدي يشرف شخصيا على تعليمنا الحياة، بعد كل رحلة عمل يجلب لنا الكثير من الكتب، وأشرطة الفيديو التعليمية، والرسوم المتحركة وكان يأخذنا إلى المتاحف، وحدائق الحيوان، ويشرح لنا عن كل شيء بأسلوب مشوق لا يخلو من الدعابة كثيرا. والدي لم يكون اكاديميا او حاصلا على شهادات عليا بل كان رائد مشروع تربوي مسؤول.

لقد تعرّفت على معظم أنواع الزهور، وفصائل الأسماك، والحيوانات من خلال والدي. لقد تعرّفت على ملمس وبر الثعلب، وشوك القنفذ، وتكوين الزهرة، والعديد من الأشياء من خلاله. وأذكر عندما كنا نتعرض لموقف صعب أو لاحظ تقاعسنا عن الدروس كان وبهدوء شديد وبتعابير جادة يقول لنا إن العلم سلاح يحميك من غدر الزمن ومذلة السؤال.

وقبل كل امتحان كان يقول لنا: “عند الامتحان يكرم المرء او يهان” هذه العبارة لاتزال ترن في أذني حتى اليوم. وفي كل موقف من المواقف التي تمرّ بي في حياتي أتذكر كلماته، التي أصبحت مبادئ ثابتة لدي.. والدي لم يكن معلما بطبيعة عمله لكنه كان يتعلم كل جديد كي يعلمنا الحياة من منظور واقعي ملموس في كل يوم خميس كان يأخذنا إلى المكتبة لشراء القصص والمجلات..

أما جدي فقد كان يخصص لنا ساعتين يوميا لقراءة أمهات الكتب العربية والإسلامية في مشهد أقرب إلى الحلقات الدراسية، ويخصص جزءًا من الوقت للتأمل في الطبيعة، واللعب في الهواء الطلق. وقد صارت تلك الحالة التأملية التي ورثتها عن جدي عادةً إلى أن كبرت فلا يكاد يمر يوم دون أن أقرأ في كتاب أو قصة أو أمرُّ ببصري على صفحة من كتاب، أو أن أتأمل في الطبيعة.

لم تكن أمي غائبة عن المشهد بل كانت هي من تشرف على تكملة الدور في غياب أبي فالمتابعة والإشراف كانت من صميم دورها ونصيبها في تربيتنا ولا أذكر مرة أننا تعرضنا للترهيب كي نتعلم؛ بل كان الحب والهدوء والمرح والصداقة جوهر العملية التعليمية.

وحيث كان والدي يبحث دائما عن الجار قبل الدار فمعرفة سكان الحي وثقافاتهم كانت من الأولويات المهمة لضمان سلامتنا فكريا وثقافيا وسلوكيا. أما والدتي فقد اهتمت كثيرا بمعرفة أصدقائنا وأسرهم وكانت على تواصل دائم معهم ولا تقف عند هذا الحد بل حتى زميلات المدرسة والمعلمات فهي من تقوم بالمتابعة والاهتمام لأمورنا الدراسية وتحصيلنا العلمي.

وبعد مرور ما يقارب من ٥٠ سنة من اكتشاف النفط في الخليج، وسطوة النمط الاستهلاكي والاهتمام بالمظاهر أكثر من أي شيء آخر وتلك العادات المستحدثة التي أذابت الكثير من القيم الأخلاقية والتربوية واستوردت كوكتيل من القيم الثقافية التي لم تسمن ولم تغن من جوع حتى أصبحنا نرى في الأسرة الواحدة لكل فرد ثقافة تسير في اتجاه معاكس عن بقية الأسرة والمجتمع تحت مسمى الحرية أو النظريات التربوية الحديثة وحتى الآن لم نر إلا المزيد من إفرازات تربوية قادت أجيالنا الجديدة إلى طريق غير معلوم وكما يقول المثل: “أسمع جعجعة ولا أرى طحينا”.

بالامس كانت التربية عملية تعاونية تشاركية بين الاسرة والمجتمع واليوم التربية عبارة عن نظريات وقوانين ومحاضرات تصطدم بواقع ان الطفل هو من يحدد المسار التربوي في الوقت الذي تخلى الكثيرون عن أداء رسالاتهم .

—————

– كاتبة وباحثة عمانية

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 6893 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.