الأحد , 28 أبريل 2024

أنا أحبك..!

= 2737


    بقلم: د.علا المفتي

تسللت بخفة إلى غرفته ، دون أن يشعر بها أحد. ثم دلفت إلى الفراش ، لترقد بهدوء بجواره ، متفحصة قسمات وجهه بتعجب باد. ثم جذبته من طرف أنفه بقوة قائلة: بابا أصحا عشان تلعب معايا .. أنا بحبك.

هكذا استطاعت طفلة ،لا تتعدى سنوات عمرها الثلاث سنوات ،أن تعبر بفطرتها النقية البسيطة ،عما جال في وجدانها من مشاعر. دون أن تضع الحواجز ،والحدود ،والعراقيل ،أمام تلك المشاعر النبيلة الطاهرة. أو تحسب لها الحسابات ،أو تتوقع ردودا لفعلها هذا ،أو تهتم بأراء الناس فيها ،كما نفعل نحن الكبار. 

إن تلك الطفلة تتمتع بمستوى مرتفع من الصحة النفسية ،والسلام النفسي. فكيف استطاعت أن تصل إلى ذلك؟

للإجابة على هذا السؤال ،دعونا نتأمل معا بدايات هذه الطفلة ،منذ أن كانت جنينا في رحم أمها. حيث كانت الأم تخاطب جنينها الذي لم تره قط ،بكلمات حانية ،وتعبر له عن مشاعرها الفياضة ،واشتياقها إليه ،وكأنها تراه. ويشاركها الأب حوارها ،مع الجنين المختفي في غيابات رحمها. إن ذلك الجنين الذي يستمع إليهما ،تسجل خلاياه ما يتلاقاه من أبويه ،من مشاعر وأحاسيس إيجابية. 

فقد أثبتت الدراسات العلمية ،أن الجنين في رحم الأم ،يتأثر بمشاعرها ،وبحالتها المزاجية. كما أوضحت بعض الدراسات الأخرى ،أنه يتأثر بالموسيقى التي تستمع لها الأم ،وأن لها تأثيرات إيجابيه في نموه.

وعند ميلاد هذه الطفلة ،كانا والديها نموذجا للأبوين الداعمين المتقبلين ،حيث كانا دائما ما يخاطبانها منذ نعومة أظفارها ،بكلمات الحب والحنان ،ويصفاها بصفات إيجابيه ،ويشعراها أنها فرد مهم في أسرتهم. كما كانا يتعاملان بنفس الطريقة معا. فلا يخجلا من تبادل كلمات المجاملة الرقيقة الراقية ،التي تعبر عن الود والمحبة أمام طفلتهما.

 كما اعتادا على تخصيص ،وقتا لطفلتهما لمحاورتها ومناقشتها فيما يسعدها ،وما يقلقها ،وما تتمناه ،وما تريد أن تسأل عنه. وكانا يجيباها بأسلوب سهل ،يناسب عمرها من خلال اللعب ،أو رواية القصص أو تمثيلها. فاعتادت الطفلة أن تعبر بحرية ،وتهذيب في نفس الوقت ،عما يدور بداخلها من مشاعر وأفكار ،على اختلافها. 

فاتسمت بالهدوء النفسي ،والبشاشة ،واستمتعت بمرح الطفولة. ولم تعاني ،كغيرها من الأطفال ،من نوبات البكاء ،والصراخ الحاد والعدوان البدني واللفظي ،والتي يستخدمها بعض الأطفال ،عندما يعجزون عن التعبير عن مشاعرهم الغاضبة أو الحزينة.

إن كبت المشاعر ،وعدم التعبير عنها ،يؤدي إلى أمراض نفسية ،وجسدية كالاكتئاب ،والقلق واضطرابات المعدة والأمعاء ،والقولون العصبي ،وارتفاع ضغط الدم ،واختلال نسبة السكر في الدم ،والإصابة بالشلل أحيانا. وهذا ما أكده علماء النفس والأطباء والمعالجين النفسيين ،من واقع الدراسات العلمية ،في مجال الطب النفسي والصحة النفسية.
 
كذلك فإن كبت المشاعر ،له تاثيرات سيئة على العلاقات الاجتماعية ،على اختلافها. فتبادل كلمات الحب ،والمجاملات الرقيقة مطلوبة في علاقات الزواج والصداقة ،ومطلوبة بين افراد الأسرة ،والجيران وزملاء العمل ،وفي معظم التعاملات والأماكن العامة والخاصة. 

فقد قال الله تعالى ،في كتابه الحكيم "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ" (إبراهيم ،24). كما أوصانا رسولنا الكريم ،عليه الصلاة والسلام ،بالكلمة الطيبة ،فالكلمة الطيبة صدقة. و أشارعلينا باستخدام الهدية كرسول محبة بيننا ،حيث قال ،عليه الصلاة والسلام "تهادوا تحابوا". فهناك بيوتا وعلاقات بنتها الكلمة الطيبة ،وما أكثر التي هدمت بفقدانها.

إن ما آل إليه مجتمعنا من أمراض نفسية ،واجتماعية ،إنما يرجع إلى تخلينا عن إنسانيتنا ،والتحقير من أهمية المشاعر وحبس العواطف النبيلة ،واعتبارها نوع من الضعف والسذاجة.

والسؤال الآن ،كيف نعلم صغارنا أن يعبروا عن مشاعرهم ،بحرية وتهذيب ،حفاظا على إنسانياتهم في المقام الأول ،وحرصا على سلامهم النفسي ،وصحتهم الجسدية والنفسية؟

هناك طرق كثيرة يمكن أن نتبعها مع أطفالنا لتحقيق هذا الهدف من أهمها:

– كن قدوة إيجابية لطفلك في التعبير عن المشاعر ،فاستخدم كلمات مثل أحبك ، لو سمحت ،اشكرك ،كيف حالك الخ
– كن نموذجا لطفلك ،في تكوين علاقات اجتماعية جيدة مع الآخرين ،داخل وخارج الأسرة ،قائمة على الود والاحترام ،والتفاهم والتقبل.
– إحك قصصا لطفلك ،مفعمة بالمشاعر ،واجعله يمثلها معك في شكل لعبة مسلية.
– شجع طفلك ،وخاصة في مراحل الطفولة الأولى ،على أن يعبر عن مشاعره بالرسم. حيث أنه قد يجد اللغة عائقا أمامه ،فهو في السن الصغيرة لا يحسن استخدامها.
– استخدم لغة الجسد في التعبير عن مشاعرك لطفلك. فمثلا ابتسم له ،واحتضنه وربت على كتفه ،في المواقف التي تستلزم ذلك.
– تجنب الصراخ ،والتصرف بعنف أمام أطفالك.
– راقب ما تستخدمه من ألفاظ ،أثناء الحديث مع اطفالك ،أو مع غيرهم في حضورهم.
– تقبل دموع أطفالك ،وتفهم مشاعرهم ،ولا تحقر منها ،أو تسخر من أسبابها.
– امنح طفلك بعض الهدايا البسيطة ،كقطعة حلوى صغيرة ،أو زهرة جميلة وأخبره أنك تحبه.
– شجع اطفالك على مصارحتك ،بما يضايقهم منك ،في شكل لعبة تبادل أدوار ،أو لعبة تجعلهم يتقمصون فيها ،دور آباء وأمهات مع دماهم وعرائسهم.
– راقب طريقة لعب طفلك. ففي العادة الأطفال يسقطون مشاعرهم ،ويعبرون عن دواخلهم ،في لعبهم الإيهامي التخيلي ،وفي رسومهم.
– احرص على تكوين علاقة صداقة وطيدة مع طفلك ،تسودها الديمقراطية والموضوعية وليس السلطوية.

وفي النهاية أعلم أن تعليم طفلك ،التعبيرعن مشاعره ،بطريقة لائقة ،يمنحه ويمنحك أيضا ،طاقة إيجابية هائلة ،فادفع بالتي هي أحسن ،تَحسُن حياتك وتصفو أيامك.

——————-

* مدرس أدب وثقافة الطفل جامعة عين شمس

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 6153 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.