أفاقت قبيل الفجر على صوت الرعد
وقد أنار البرق غرفتها
توضأت وصلت
ثم خرجت للردهة ووقفت قرب زجاج النافذة المطلة على الحديقة بقرب المدفأة
وأخذت تتأمل زخات المطر وهي تنساب في سلاسة على زجاج النافذة
والأشجار هناك تهتز أغصانها في فرحة ونضارة
والأرض قد ارتوت واخضر عشبها
تسللت لأنفها رائحة المطر المنعشة عبق بها صدرها لكن هناك اختلاف
أغمضت عينيها وهي تستعيد ذكريات الطفولة
هذه نفس الحديقة ونفس الشجرة
لم يتغير شيء سوى أن أمها لم تعد هنا
كانت صغيرة تشاكسها
وكان صوتها يخالط تغريد الطيور
وريحها يمتزج بعبق الأزهار
وضحكاتها ودعواتها تملؤ روح الصغيرة
كبرت فجأة حين غابت الأم
كم انتظرت عند هذا الباب علها تعود
شعرت ببرودة على خدها ففتحت عينيها
كانت يد أبيها تمسح دموعها التي ملات وجهها
وضع وشاحها الصوف على كتفها
وأجلسها على الأريكة ثم تبسم وقال صباح الخير يا حبيبة أبيها
تبسمت وقالت صباح الخيرات يا أبتي
بعد قليل هدأ المطر
وقامت لتعد كوبين من القهوة الغنية بالحليب الساخن
قالت لا حرمني الله منك يا أبتي
بعد أن تذوق القهوة وأثنى عليها
تدللت قليلا على أبيها وشاكسته
اعتدل في جلسته وقال :
يا ابنتي
الأبوة معنى لا يقترض ولا يمارى
هي عطاء ورحمة أودعها الله في قلب الأب لأبنائه
وسيل من العواطف يجري بينه وبينهم
هنا ترحمت على كل أب حنون قضى نحبه
تنهد أبوها قائلا: وكم من أب حي يرزق ولا نصيب له من الأبوة إلا اسمها
حزنت كثيرا على حال أبناء لهذا الأب
وضعت الكوب من يدها وقالت بنبرة منفعلة :كيف يضيع رعيته؟
كيف وكيف؟
وهنا سقط الوشاح عن كتفها وعلا صوتها دون قصد
وخنقتها العبرة
وضع أبوها كوبه والتفت نحوها وربت على كتفها وقال:
هدئي من روعك يا بنيتي
فكم من يتيم يحيا بسلام وأباه ميت
لكن الله لا يضيعهم
فالخالق لا ينسى يا بنيتي
هدأت قليلا وقبلت يمينه
وقالت :لا يمكن أن أتخيل حياتي بدونك
فلن يعوضني شيئا وجودك
وبعد سجال طويل خرجت برسالة:
إذا لم يكن الوالد أبا فلا أبوة
أيها الآباء رفقا بما استودعكم الله
فهن باب الجنة وحجاب النار
لا تعلمون كم تعاني الفتاة إذا ضيعها أبوها
وبقيت بلا راع
واعلموا أن الله سائلكم
قطع حبل أفكارها صوت أبيها يدعوها للخروج للحديقة بعد طلوع الشمس وصفاء السماء
خرجت وقد كبرت بعد هذه الجلسة أكثر من عشرة أعوام
كان هذا اليوم حافلا بالأحداث