الخميس , 9 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: مواطنٌ بدرجةِ وزير!

= 1466

razaq(1)


استقبال معالي د.أحمد المحرزي وزير السياحة العماني للأطفال المشاركين في برنامج "صيف المواهب" جعلني أستحضر الصورة المرسومة بذهني للوزير، في السنوات الأولى من عمري، عندما بدأ وعيي يتفتّح على العالم، ولم تكن تلك الصورة تمتّ للواقع بصلة، كونها متخيّلة، رُسمتْ بخطوط استمدّت ملامحها من خلال ما قرأته في حكايات " الف ليلة وليلة"، وكتب التراث العربي،  ومارأيته في رقعة  لعبة الشطرنج، إذ الوزير يقف بصلابة محاطا بجنود، وحُصُن، وفيلة، وقلاع!

 وكان أول وزير من لحم، ودم ، تقع عليه عيناي، هوالراحل طارق عزيز في عام 1974م حين حضر ، وكان في ذلك الحين وزيرا للإعلام، افتتاح معرض لرسومات الأطفال أقيم بقاعة الفن الحديث بالباب الشرقي، تلك الدقائق، كانت حدثا ليس عاديّا، بالنسبة لمثل سنّي، آنذاك، فالوزير الذي رأيت صوره في التلفزيون، والصحف، لم يكن من خطوط متخيلة ، ولم يقف متسمرا في لعبة الشطرنج، بل رجل يمكن أن يكون من عامة الناس، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق !

لذا بقيت عيناي تتابعانه ، وهو يقص الشريط ، وتلتقط الكاميرات له  الصور، بعين ملؤها الدهشة، فقد خرج الوزير من الحكايات، وغادر قطعة الشطرنج، ونزل إلى الواقع.
بعد الثمانينات، ونشوب حرب الخليج الأولى  لم نعد نرى الوزراء ، كما كنّا في أزمنة السلم، لتعقّد الظروف الأمنية،  فصار الوزير أينما يحلّ يكون محاطا برجال حماية، ومسدسات ، وبنادق نصف اخمص، واستنفار، وفزع في العيون، وغضب في الوجوه،  مع وجود استثناءات بالطبع، فعادت صورته إلى زمن الحكايات، ورقعة الشطرنج.
وحين أقمت في اليمن، ومن ثمّ السلطنة، تبدّدت تلك الصورة، شيئا، فشيئا، وعادت صورة الرجل الذي من لحم، ودم، تتّسم بالبساطة، من حيث أن الكل سواسية" كأسنان المشط"،  وليس شرطا، أن تجري في عروق الرجل دماء ملكيّة ليصبح وزيرا، فالوزير رجل من عامة الناس، ولكنه كّلف بمسؤولية أكبر من سواه.

 فهل أدرك الأطفال المشاركون ببرنامج "صيف المواهب" الذي يقيمه مركز الدراسات، والبحوث بمؤسسة "عمان" للصحافة، هذه الحقيقة ، عندما وقفوا أمام معالي المحرزي بكلّ ثقة، وتحدّثوا معه بكل ارتياح، ووجهّوا له أسئلتهم، فقام بالردّ على كلّ سؤال من تلك الأسئلة متبسّطا معهم بالاجابات المرفقة بابتسامة خفّفت من الأجواء الرسميّة التي عادة ما ترافق مثل هذه اللقاءات، وقد رأينا معالي الوزير كيف كان يتباسط مع الأطفال، ويصغي إليهم ، ويداعبهم، وحينما وجهّت لمعاليه إحدى المشاركات سؤالا باللغة الفرنسية فرح، ووجّه لها عدة أسئلة باللّغة الفرنسية، كان من بينها عن الطعام الذي يعجب أطفال بلجيكا، فأجابته: الجبس، فضحك لجوابها ، وسأل الأطفال أكثر من مرة : من منكم يتمنى أن يكون وزيرا؟

 والغريب أن أحدا لم يرد عليه، بالايجاب، وكأنما هذه الوظيفة لا تعجب أحدا منهم !! وكأنّهم أدركوا بالفطرة إنّ الاستيزار مسؤولية أكثر من كونه وجاهة .
وهوبالتأكيد ليس استثناء، فأمثال معاليه كثير من الوزراء ، ليس في السلطنة فقط ، بل في المنطقة عموما، فلم يعد وزير اليوم  يجلس في برج عاجيٍّ، محاط بحاشية، كما تبدو عليه صورته المرسومة في  الذهنية الكلاسيكيّة،  بل صار جزءا من حركة الحياة ، أكثر انفتاحا عليها ، وقد ساعد تطوّر تكنولوجيا الاتصال على ذلك، فوزير اليوم  يتفاعل مع ما يطرح في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الغالب ، له حساب في الفيس بوك، أو تويتر، أو الانستغرام، وربما في جميعها، يتلقّى أيّة ملاحظة من خلاله، ويتواصل عبر"الواتس أب " مع القريبين، والبعيدين، وزير اليوم يمكن له إذا شاهد أحدهم يمشي في الطريق، يوقف سيّارته، ويدعوه للصعود بجانبه ليوصله إلى وجهته، كما حصل لي مع وزير عماني .

وزير اليوم لا يتعالى على وسائل الإعلام، بل يتفاعل مع أيّ وسيلة، فيفعل مثلما فعل المحرزي عندما استقبل في مكتبه أطفالا قدموا متأبطين أوراقهم ، ليضعوا أسئلتهم البريئة على طاولته في برنامج يهدف إلى إعداد صحفيين منذ نعومة أظفارهم، وحين يحوّل الدفة ، ويسألهم، يجيبون عن أسئلة معاليه  بثقة، مثلما يجيبون عن سؤال يوجهه أب لأبنائه، فهذا يعني أنّهم يدركون ،فطريّا،  أنه لا يختلف عن بقية المواطنين سوى بعِظَم مسؤوليّاته، كونه مواطنا بدرجة وزير، ليس إلّا !
 

 

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 2522 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.