الأربعاء , 8 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: عندما اغتسلنا بحمّام الأسدي في “نزوى”!

= 2321

Abdul razak Rubaiy


حين انتهى عرض مسرحيّة " المجنزرة ماكبث" للمخرج جواد الأسدي التي قدّمها المسرح الفلسطيني على مسرح الرشيد ببغداد عام 1991 م وقفنا نصفّق لدقائق عديدة، فالعرض الذي كان كتابة جديدة للنص الشكسبيري "ماكبث "، جاء تعرية لماكنة الحرب ،وإدانة لآلتها التي تطحن الجمال، ولأنّ العرض قدّم بدون مخرجه فقد اعتلت أمّه خشبة المسرح لتحيي الجمهور، نيابة عن ولدها !

تلك الصورة ظلّت محفورة في ذاكرتي، فقد كان الأسدي قد عاد إلى بلده بعطائه الفنّي ، ومنجزه الجمالي، أمّا جسده، فقد كان يقبع على بعد أكثر من  1000 كلم هي المسافة بين بغداد، وعمّان يتابع أخبار العرض من العاصمة الأردنيّة عمّان بقلق ، ولم يهدأ ذاك القلق  حتى نقلوا له ما جرى على الخشبة بعد انتهاء العرض، من تصفيق حار، وكلمات إعجاب، وباقات ورود تناثرت على ممثلي العرض، وبخاصّة  بطلته الفنّانة نادرة عمران.

من يومها، وأنا  أتابع أخبار أعمال الأسدي، التي قدّمها بعد ذلك العمل، ومما أذكر منها: الإغتصاب" لسعدالله ونّوس، تقاسيم على العنبرلتشيخوف، نساء في الحرب،من تأليفه، الخادمات لجان جينيه وفي كل تلك الأعمال وسواها ظل يشتغل على حساسيّة التمثيل الحي الحديث بمناخات واقعية مركّبة على جمل بصريّة ،ومناخ فنتازي، وسينوغرافيا ميّالة للنحت الجمالي، وحول اختياراته للنصوص يقول" إن لذلك علاقة عميقة بمتغيرات المجتمع العربي، وما طرأ عليه من تهدّم،وانحدارات، ضمن سعيي الكشف عن ضحالة الذهاب نحو التناحر، وغربة الإنسان ،ووحدته،ووحشته"، لكنّني لم أتمكّن من مشاهدة من أعماله سوى عملين شعريين قدّمهما على مسرح الفليج : الأوّل بعنوان"أنشودة المطر" وكان من غناء المطربة اللبنانيّة جاهدة وهبه ،وعرض  في ذكرى رحيل  الشاعر بدر شاكر السيّاب ، والثاني عن نصوص للشاعر سيف الرحبي، حمل عنوان"نشيد الحجر"، وهي نصوص إنسانية النبض، رصدت جماليات الإنسان، والطبيعة العمانية، حتّى أتيحت لي مشاهدة  مسرحيّته " حمّام بغدادي"، التي جرى عرضها على مسرح المركز الثقافي في نزوى في افتتاح مهرجان المسرح العماني السادس يوم 6 ديسمبرالجاري.

 وقد ناقش خلالها  معاناة الإنسان  العراقي بعد2003م من خلال حكاية الأخوين : الأكبر"مجيد"، والأصغر "حميد " اللذين يعملان سائقين ينقلان المسافرين من العاصمة الأردنيّة عمّان إلى بغداد، واختلافهما حول نظرة كلّ واحد منهما للأمريكان، فيتعاون  "مجيد " معهم ، بدوافع انتهازيّة ،بينما يقف " حميد" المسحوق  الذي يعمل لدى شقيقه الأكبر ، على النقيض من ذلك، وترتفع وتيرة الأحداث حين كان الشقيقان يغتسلان في حمّام شعبي حيث تدور أحداث المسرحيّة التي مثّلها ببراعة وحس شعبي عال الفنانان العراقيان "حيدر أبوحيدر،وعبود الحرقاني " فحين يحصل انفجار في الخارج ،يقفل صاحب الحمّام الباب عليهما ، ويهرب ، بعد اطفاء النار التي تسخّن المياه ،تاركا الأخوين داخل ذلك الحمّام  ، وسط برد قارص في عالم لا يرحم.

علما بأن سبق للمخرج أن قدّم هذا العرض  في سوريا، ومثّل الشخصيّتين : فايز قزق، ونضال السيجري، ثمّ أعاد الأسدي  كتابة النص،ورسم الشخصيّات، تبعا للمتغيرات التي جرت،وتقدّم رؤيته الإخراجية، فصنع فرجة مسرحيّة.

ورغم أن سنوات طويلة مرّت على عرض"المجنزرة ماكبث"، و الإختلاف في اللغة، لأنّ "الحمّام" جاء بالمحكيّة العراقيّة، وغلبت عليه الروح الشعبيّة، وكذلك الإختلاف في تكوين العرض المسرحي، والرؤية  إلّا إنني وجدت الأسدي في "حمّام بغدادي " به الكثير من القواسم المشتركة بين العرضين ، لعلّ أبرزها موقفه الرافض للهيمنة الدولية، وقهر الشعوب ، ولمست حسّه الإخراجي من ذلك اشتغاله على الممثل ، في الأداء ، والإلقاء ، والتعبير الحركي ، وزخرفة فضاء العرض بالعديد من الجماليات البصرية التي تنطلق من روح النص، مع تطوّر الأدوات ، واختزال الكثير من التفاصيل .

وبعد انتهاء عرض"حمّام بغدادي" بقينا دقائق ننتظر إطلالة الأسدي ليحيي الجمهور، لكنّه توارى عنه، وظلّ خلف  كواليس المسرح ، يحتفل مع نفسه بنجاح العرض ، مكتفيا  بما قدّم من من متعة للجمهور ،وما صنع من مناخ جماليّ ، فلم نره على الخشبة ، وهذا أعاد لذهني ما جرى على مسرح الرشيد في عرض "المجنزرة ماكبث" لكنّ تصفيق الجمهور بلغ مسامعه، مثلما بلغها ، حين كان يقبع خلف كواليس مسرح المركز الثقافي     بـ"نزوى"   .   

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 1994 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.