الإثنين , 29 أبريل 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: “صنعاء” خارج زمن الكوليرا

= 1510

وأنا أتابع ماتبثّه الفضائيات، ووكالات الأنباء من أخبار تجود بها مما يجري في اليمن الذي يظل سعيدا، رغم القصف ، والدمار، والتفجيرات، والكوليرا الذي ضرب صنعاء بقبضة من لؤم، ليودي بحياة الآلاف، ليضع يده بيد الموت، أقول : وأنا أتابع كلّ ذلك أتألم، ويزداد ألمي حينما أشاهد صورا لأماكن بدت عتيقة، ودروبا سلكناها لم تعد كما كانت، بل أن بعضها لم يعد له أي أثر سوى ماتركه في الروح، عندما أرى ذلك أحاول استدعاء السنوات التي أمضيتها في تلك الأمكنة, قبل زمن الكوليرا، أواسع التسعينيات، حتى نهايتها، عندما أقمت هناك، أتذكر ليالي رمضان التي تبقى خلالها أبواب المحلات مفتوحة حتى أذان الفجر، والحركة في الشوارع مستمرّة، فكان الليل يرتدي ثوب النهار خلال الشهر الفضيل، فيما تهدأ الحركة خلال النصف الأول من النهار، وتبدأ تدبّ شيئا، فشيئا حتى تكتمل بعد صلاة الظهر، أما خلال أيام العيد، فقبل حلوله بأسبوع نبدأ، نحن العرب المقيمين، بالتبضع تحسّبا لاغلاق المحلّات خلال العيد، باستثناء المحلّات الكبيرة..

ويوما بعد آخر تخلو الشوارع من المارة، لأن الكثيرين يغادرون “صنعاء ” إلى الأماكن التي نزحوا منها، ومع ذلك نمضي وقتا ممتعا مع طقوس العيد في (صنعاء)، وتبدو فرحته واضحة على وجوه الأطفال، وكنّا نبدأ العيد، بعد أداء الصلاة، بمعايدة زملائنا العرب، ونتّجه عصرا لمعايدة الدكتور عبدالعزيز المقالح في منزله، أو منزل أحد الأصدقاء، حسب اتفاق مسبق، وهناك نلتقي بالدائرة القريبة من الأصدقاء وبعض رواد مجلسه الأدبي الذي اعتاد على إقامته بمركز الدراسات اليمني, بعضهم قضى نحبه كالشاعر الكبير سليمان العيسى، وبعضهم عاد الى بلده أو واصل طوافه بين العواصم، وأسماء أخرى ستظل محفورة في ذاكرة الكتابة والروح , في ذلك المجلس التقينا نخبة كبيرة من المبدعين العرب، والأكاديميين ممن كانوا يحلّون ضيوفا على جامعة صنعاء أساتذة زائرين، وضيوفا على “صنعاء”، التي “لابد منها” “وإن طال السفر” كما يقول الشاعر، وبين حين وآخر ينقل لي عدد من الأصدقاء اليمنيين من الأدباء الشباب بعض تفاصيل المجلس وما فيه من نقاشات وأحاديث في الثقافة والفكر بما يؤكد لي أن هذا المجلس كان وما يزال حلقة عمل ثقافية عربية به تطبخ الكثير من الرؤى الإبداعية والنقدية والفكرية والأحلام ، في ظرف تراجعت به الأحلام أي تراجع !

كنت أخرج من تلك الجلسات، كما ذكرت في أكثر من مناسبة، إذ أدين بالفضل لذلك المجلس في تشكلي المعرفي، وتبلور تجربتي في الكتابة، ممتلئا بالكثير من الأفكار، والملاحظات التي تتشكل من خلال المحاور التي تفتحها للنقاش، وكان كل من زاويته يضيء المكان بجديده على مستوى الشعر والنقد في هذا المجلس سمعنا نصوصا جديدة ونقاشات مثمرة وشاهدنا التجارب الأولى لمسرح “المقيل” الذي أسسه الفنان الراحل كريم جثير وقدم عدة أعمال من بينها مسرحية صلاح عبدالصبور “مسافر ليل” وقرأ جثير مسرحيتي “كأسك ياسقراط” قراءة مسرحية أعقبتها نقاشات طويلة مثمرة , وكان المسرحي عبد القادر صبري يشاطره هذا الإهتمام والسعي ,
-لا أدري أين وصلت الآن تجارب مسرح المقيل هل رحلت مع رحيل كريم جثير أم وجدت مسرحيين آخرين يواصلون المشروع ؟
– وكان الصديق مأمون الربيعي قبل أن يفتح حافظته ليسمعنا روائع الشعر العربي يؤكد دائما لي إننا أبناء عمومة شتتها إنهيار سد مأرب ولكن (إنهيار)”سد “العراق بعد حرب الخليج الثانية رأب الصدع وأعاد واحدا من قبيلة(الربيعي) الى الجذور الأولى , فأنتشي وأجد في ذلك الكلام مواساة وتصديقا للمثل العربي الشائع “رب ضارة نافعة”.

فإن كانت المصائب تفرقنا فإن مصائب أخرى تقع بعد قرون تجمعنا .

ولم تكن تلك الجلسات ثقيلة الدم فقد كانت تطعم بالفكاهات ومن بينها أذكر أن شابا قدم من قرية نائية من صنعاء ليقرأ محاولات كتبها وهي محاولات بسيطة ولم تكن تخل من أخطاء نحوية خاصة في عمل حروف الجر , وبعد إنتهاء الشاعر الشاب من قراءته قال له المقالح بصوته الهامس وبحنو أب “سمعنا منك محاولات جميلة ولكن لابد أن تراعي قواعد النحو وبخاصة عمل حروف الجر ” فرد الشاب “كما تعلمون دكتور إننا في قرية نائية” فقال له” يا بني أعرف أن القرى النائية تفتفر لخدمات الماء والكهرباء ولكنها بالتأكيد لا تفتقر الى حروف الجر ” فضج المجلس بالضحك، ولا أنسى الباحث في مجال الفلسفة مصطفى يوسف خليل والفنان المسرحي عبد الله العمري عندما إدعيا ملكية اليمن لكوكب المريخ بالأدلة والبراهين في بحث نوقش داخل المجلس، و تبعا لذلك رفعا دعوة قضائية ضد وكالة الأبحاث الفضائية الأمريكية لأنها لم تستأذن اليمن عند إجراء بحوثها حول هذا الكوكب..

وأذكر إنني تلقيت الموضوع بكثير من الابتسام عندما أعلنا عن استعدادهما لبيع قطع من المريخ وحددا السعر بدولار واحد لكل متر وبعد شهور من وصولي الى مسقط وصلتني رسالة من (مصطفى ) و(عبد الله ) قالا فيها : لقد سمعنا آخر قصائدك التي أرسلتها للأستاذ الدكتور حاتم الصكر وكانت بلسما على جروح الفراق الذي اخترتموه ، وعليه فإننا أهل المريخ في الجزيرة العربية نهدي لكم مائتين وخمسين ألف متر على سطح وباطن كوكبنا الأحمر(المريخ) لكي تتذكروا دائما بأن أوطان الأرض وأوطان السماء تفتح لكم التوقيع : مالكا المريخ بالوراثة “، تذكرت كل ذلك وتمنيت أن تتكرر تلك الأيام الجميلة في ذلك المجلس الذي كان حلقة عمل ثقافية بحق، ومازالت تلك اللقاءات مستمرّة رغم ظروف الحرب، كما يؤكد د.المقالح ، كلما تواصلت معه هاتفيا، بين حين وآخر.

وكنت بعد مغادرة المجلس أخرج برفقة د.حاتم الصكر ، والشاعر فضل خلف جبر اللذين يقيمان حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية، نتجوّل في الشوارع، نمرّ بالمكتبات لنشتري الصحف العربية وأبرزها “القدس العربي” ثم نجلس في مقهى لنشرب قهوة “القشر” مع الحلوى الصنعانية، وهذه القهوة تعدّ من قشر القهوة الذي يتحول إلى شراب لذيذ يحمل نكهة القهوة، أو نذهب إلى “مخبازة” وهي مطعم يقدّم السمك المشوي المضاف إليه التوابل ، مع خبز “الملوح” المحلي، وقبل انتصاف الليل نعود إلى أماكن سكنانا ممتلئين بالكثير من التفاصيل التي ستظلّ في ذاكرتنا، وستتوهج من جديد بعد أن يعود السلام إلى (صنعاء) التاريخ، والحضارة ، والجمال، ومدينة بهذا العمق التاريخي، والحضاري كفيلة بأن تنتصر على زمن الكوليرا.
——————
*بالتزامن مع نشره مجلة “التكوين”.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 7351 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.