الأحد , 5 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: الدرس الأوّل..!

= 1316

Abdul razak Rubaiy


مهما تقدّمنا في العمر، تبقى لليوم الدراسي الأوّل نكهة خاصّة، لا تفارقنا، ففي ذلك اليوم تُفتح صفحة جديدة، تشهد بناء علاقات مع مكان جديد، وفصل دراسي، ومعلّمين، وأصدقاء جدد.

ورغم الخوف من مجهول ما، ينتظرنا، إلّا أنّنا كنّا ننسى مخاوفنا، وسط فرحة عارمة، لكوننا نبدأ مرحلة جديدة من حياتنا المدرسيّة.

في ذلك اليوم ندرك أنّنا كبرنا قليلا بعد إجازة الصيف، وصارت أرجلنا ترتفع لتصطدم بأسفل المكان المخصّص لوضع الحقائب، وغالبا ما تمضي الحصص الأولى بين توزيعنا على الفصول، واستلام المناهج المقرّرة، والقرطاسيّة، والتعرّف على المعلّمين، والطلبة الجدد، لكنّ معلّم العربيّة المتخرّج حديثا، والمتسلّح بفورة الشباب، أراد أن يبدأ مشوار المعرفة معنا منذ الدرس الأوّل، كان ذلك ببغداد عام1972، وكنت في الصفّ الخامس الابتدائي، مسح السبورة، وأمسك بقطعة طباشير صغيرة، كانت ساقطة على الأرض، وكتب سؤالا هو: كيف قضيت الإجازة الصيفيّة؟

سؤال مباغت جعلنا نستحضر شهور الصيف التي غالبا ما كنّا نمضيها، كسائر أبناء المناطق الشعبيّة، بين ممارسة هواياتنا في الألعاب المتاحة، ومن بينها كرة القدم، والدوران داخل ذلك المحيط الضيّق، وحين رأى صمتنا، غادر الفصل متوجّها إلى الإدارة، ليجلب لنا نسخا من مجلة كانت تصدر للأطفال اسمها «مجلتي»، وأخرى للأولاد اسمها «المزمار»، وقام بتوزيعها علينا، مؤكّدا أن الإجازة الصيفيّة فرصة رائعة للمطالعة، لكي تبقى علاقة التلميذ بالكتاب مستمرة، لا تنقطع، فيتثاقل بعد العودة للمدارس من القراءة، هذه الكلمات أحدثتْ نقلة في تفكيرنا، فعرفنا الطريق إلى القراءة، وكنّا نفعل ذلك في غفلة من أهلنا الذين لا يحبّون أن يروا بين أيدينا شريكا للكتاب المدرسي..

 لذلك كانت الإجازة فرصة للجهر بهذه العلاقة السريّة، بل إنّنا كنا نمدّ أعيننا إلى أبعد من ذلك، فنتصفّح الصحف المخصّصة للكبار، والكتب، فنشأ معنا حبّ القراءة، وصرنا ندوّن أسماء الكتب، ومؤلّفيها، منتظرين بفارغ الصبر انتهاء الإجازة، لكي نحدّث أستاذ العربيّة عنها، لكنّنا فوجئنا بأنّه لم يكن من ضمن الهيئة التدريسيّة، وحين سألنا عنه، قيل لنا إنّه نقل إلى مدرسة أخرى، ومرّ اليوم الأول حزينا، لكنّنا، وقد تذوّقنا ذلك الطعم، وعرفنا تلك اللذة، واصلنا القراءة، سرّا، وجهرا، ومن الغريب إنّ أهلنا فوجئوا بأنّ نتائجنا جاءت أعلى، وأفضل من النتائج التي كنّا نحصل عليها عندما كان الكتاب المدرسي وحده لا شريك له في حقائبنا!

ومرّت السنوات، وكانت البذور التي زرعها «أستاذ حسين» نمتْ، ومدّتْ جذورها في أرواحنا الطريّة، ونشرت أغصانها، وأوراقها لتصبح شجرة تحمل ثمارا تعطي أكلها بين حين، وآخر، لذا ظلّ اسمه محفورا في ذاكرتي، ووجداني، وبقيت أسأل عنه حتى جاءني الخبر اليقين من صديقي طفولتي «عبّاس ناصر»، حين أرسل صور مدرستنا «النهاوند»، وكان لابدّ لي أن أستفسر عن الذي علّمني القراءة خارج إطار الكتاب المدرسي، قال إنّه يقيم بباريس، وصار كاتبا، اسمه «حسين كركوش»، لذا في زيارتي الأخيرة لباريس سألت عنه، واتّضح إنّه يقرأ لي دون أن يعرف إنّني كنت واحدا ممن زرع في أرواحهم بذور حب القراءة، والمعرفة، فالتقينا في منزل صديق مشترك -عبد العزيز النجدي-، وحين دخل كان يتأبّط عددا من صحيفة »الفيجارو»، وعلى الفور فرش ملحقها الأدبي، وأخذ يحدّثني عن محتوياته بحماس، فتذكّرت الحماس نفسه، قبل42 سنة حين كان يفرش «المزمار» !!

كان لقاء عاصفا حضرتْ به الذكريات، وأسماء المعلّمين الذين درّسوني، ومنهم من قضى نحبه، وعرفت إنّ نقله من المدرسة كان بسبب اتّهامه بإفساد عقول التلاميذ !! وهي تهمة جعلته يغادر العراق إلى فرنسا منذ ذلك الوقت !

وخلال اللقاء، حضر اليوم الدراسيّ الأوّل الذي كتب به ذلك السؤال على السبورة، فجعلنا نفكّر في الطريقة المثلى التي يجب أن نمضي بها عطلتنا الصيفيّة، مستفيدين منها، لكي لا تكون فترة خمول، كما هو حاصل لدى الكثير من الطلبة، بسبب قلّة الأنشطة في بلداننا على العكس مما يحصل في بلاد الغرب، إذ تستثمر بشكل يحقّق للطلبة الفائدة، فينخرطون في برامج، ورحلات، ودورات تدريبيّة تنمّي مهاراتهم، وهو ما سعى إلى تحقيقه مركز الدراسات، والبحوث بمؤسسة عمان للصحافة، ببرنامج «صيف المواهب» ليستفيد الطالب من إجازة الصيف، ويبدأ عاما دراسيّا جديدا، مليئا بالحيويّة، والنشاط، وكذلك ضرورة جعل الكتاب المدرسي مصدرا من المصادر التعليميّة، والتربويّة، وليس المصدر الوحيد، لتفتح مدارك طلبتنا كما فتحها أستاذ «حسين» في الدرس الأوّل من اليوم الأوّل من ذلك العام الدراسي البعيد.
—————-
razaq2005@hotmail.com

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 12304 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.