الإثنين , 6 مايو 2024

حسام أبو العلا يكتب: سري جدا ..!

= 1762

Hosam Abulela


تساقطت الدموع من عيون سامح عندما التقطت يده من أحد أدراج مكتبه ورقة وردية اللون مازالت تفوح عطرا وكانت بداخل مظروف أبيض أصفر لونه بفعل الزمن .. يعود تاريخ الورقة إلى أكثر من 20 عاما ومكتوب فيها " وداعا يامن عشقه قلبي .. يامن وهبته نبض مشاعري وأحاسيسي .. ولكن كانت الظروف أقوى مني ومنك وحرمت قلبينا أن يتلقيا رغم العشق الذي ظل يشتعل في الحنايا".

لم يتمالك سامح نفسه وأجهش في البكاء رغم أنه يحفظ كلمات الرسالة .. ودوما يهرول إليها ليسترجع ذكرياتها في لحظات يأسه وإحباطه واشتياقه للأحاسيس والمشاعر التي تملك الوجدان وتمنحه الدفء والحنان ..

كانت الكلمات من حبيبته سمية التي أحبها في منتصف العمر .. كان حينها موظفا في منصب مرموق بشركة كبرى ويحظى بحب كافة زملائه لدماثه خلقه ورقيه في التعامل مع الجميع ..

بينما كانت سمية سيدة رقيقة جميلة .. منفصلة عن زوجها منذ نحو عام .. كانت تتردد عليه في مكتبه كل فترة لارتباط الشركة التي تعمل بها ببعض الأعمال مع شركة سامح .. ما أن التقت عيونهما حتى تحدثت بصمت دون كلام .. كان سامح شديد الحياء .. بينما كانت سمية حريصة على كل كلمة ونظرة لتفادي ترقب وتحفز من حولها من الزملاء الذين كانوا يتهمونها أحيانا بالتعالي والغرور لندرة حديثها حيث كانت تفضل الوحدة حتى لا تذكر في موقف قد يسييء لسمعتها وسط مجتمع ينظر دوما للمطلقة والأرملة نظرات كلها شك وريبة ..

استمر الإعجاب الصامت بينهما عدة شهور حتى فكر سامح أن يدعوها إلى احتساء فنجان من القهوة في مكان بعيد عن العمل .. ظل مترددا خشية أن يلقى ردا صادما يجرح مشاعره وأحاسيسه التي دفنت منذ عدة أعوام بعدما انقطعت كل سبل التواصل الوجداني والجسدي مع زوجته المريضة التي قابلت وفاءه وإخلاصه عدة سنوات بالانعزال والجفاء فقد حولها المرض إلى كتلة من الغضب والانفعال .. لكنه لم يجرحها يوما ولم يفكر أن يتخلى عن مسئوليته نحوها وكان يجفف دموعها التي تتساقط مع خصلات شعرها بعد كل جرعة من العلاج القاسي ..

تحدث سامح كثيرا مع ذاته عن أحاسيسه التي تتحرك بمجرد أن يشاهد سمية .. ويتساءل كيف تمكنت أن تعيد إلى قلبه الرغبة في الحياة بعدما ظل أعوام يشارف على الموت، رافضا أن يتمرد على ظروفه القاسية قانعا بأن يستمر في التضحية .. كان سامح يعيش في حيرة قاتلة ما بين قلبه الذي يريد أن ينفض غبار السنين ويرتوي مجددا من نبع الحب والحنين .. وعقله الذي كان دوما يهزم مشاعره ويسقط أحاسيسه وينذره من خطورة دهس قلب رفيقة عمره التي أنهكها الألم دون ذنب .. ويطالبه بأن يستمر في رحلة العطاء ..

تراجع سامح عن دعوة سمية .. واكتفى بنظرات خاطفة لعينهيا الجميلتين كلما تزوره لإنهاء بعض الأوراق المتعلقة بالعمل .. وفوجئ ذات يوم بسمية تدعوه إلى حفل في شركتها حضره عدد كبير من المسئولين .. ذهب سامح وارتدى أجمل ما في دولاب ملابسه .. كان يتمنى بعد الحفل بأن توافق سمية بأن يجلسا معا  لو دقائق فلم يعد يتحمل الإحاسيس التي تداعب قلبه بمجرد أن تمر صورتها في خياله .. وتحقق ما أراد حيث وافقت أن يوصلها إلى منزلها بعد الحفل كان يتمنى أن تطول المسافة ليبوح عما بداخله .. لكن لسانه أصيب بحالة من الخرس وظلا يتحدثان عن الحفل والعمل .. وشكرته سمية وصعدت لمنزلها ..

وفي اليوم التالي وبينما كان سامح يحدث نفسه عن نظرات سمية أمس التي تطالبه بأن يصارحها بحبه .. تسللت أنامله إلى هاتفه وطلب رقمها.. ودعاها إلى احتساء القهوة في مكان قريب من عملها فوافقت بدون تردد .. طار قلب سامح من السعادة وظل يخفق بقوة .. شعر بأنه عاد شابا في العشرين وأن الحب عاد يملك قلبه .. وصلت سمية في موعدها وكانت ترتدي فستانا أزرق يظهرها في قمة التألق والجمال .. في بداية اللقاء تلعثم سامح بالكلام لكنها كانت شديدة الذكاء وتخطت ارتباكه بسؤال عن شئون العمل .. فتمالك سامح أعصابه وقال لها:"سمية منذ فترة وأنا أتمنى أن التقي بك .. فمنذ أن التقت عينيا بعينيك وكأن رابطا روحيا يربط بينهم .. اشاهد عينيك في منامي وفي تفاصيل حياتي .. هل تقبلي أن تتزوجيني .؟"

فردت عليه :"أنا أيضا أبادلك نفس المشاعر والأحاسيس وكنت انتظر منك هذه الخطوة ، لكن كنت دوما في حيرة من سر ترددك .. لكن بعدما علمت أنك متزوج ولك أسرة التمست لك العذر" فسرد عليها سامح تفاصيل حياته فتساقطت دموع سمية من تأثرها بما يعيشه .. وطلبت الانصراف مما أصاب سامح بحيرة وحزن ..

انتظر سامح اتصالا من سمية لكن مر نحو أسبوع عاش خلاله أصعب أيام حياته .. ثم فوجئ بها في مكتبه وما أن التقيا حتى احتضنت يده يدها بقوة كأنه يترجاها ألا تبعد عنه .. وقالت سمية والدموع في عينيها فكرت كثيرا في الابتعاد عنك ولكن قلبي هزمني فوجدت قدمي تقوداني إليك .. لكن في الوقت ذاته لن ابني سعادتي علي حساب زوجتك وأولادك ..

 فقال لها": أنا أراعي الله في زوجتي المريضة وأولادي ولكني صبرت سنوات حتى أعثر على قلب يحتويني بصدق حتى وجدت قلبك .. ولن أفرط فيك ابدا .. وأعدك بأني لن أقصر بحق زوجتي وأولادي حتى لاتشعري بتأنيب ضمير " .. رحلت سمية دون أن تعطي سامح ردا نهائيا بموقفها .. واختفت مجددا عدة أسابيع .. هنا تيقن سامح بـأنها حسمت أمرها برفض الارتباط به .. فظل حزينا منكسرا صامتا ..  وكلما يتصل بسمية لاترد ..

وعمق جراح سامح سوء حالة زوجته التي نقلت إلى المستشفى في حالة متأخرة .. وبعد أيام لفظت أنفاسها الأخيرة لتترك له " مروة ومنار" زهرتين جميلتين .. الكبرى 14 عاما والصغرى  11 عاما .. وبعد انتهاء مراسم دفن وعزاء زوجته عاد سامح إلى عمله ووسط أوراق كثيرة كانت تحتاج توقيعه .. وجد مظروفا مكتوب عليه "سري جدا" .. ويكشف تاريخ استلامه أنه وصل مكتبه في أول فترات غيابه لمرض زوجته ..

كان الخطاب من سمية قالت فيه :" وداعا يامن عشقه قلبي .. يامن وهبته نبض مشاعري وأحاسيسي .. ولكن كانت الظروف أقوى مني ومنك وحرمت قلبينا أن يتلقيا رغم العشق الذي ظل يشتعل في الحنايا.. فكرت كثيرا في حل .. ولكن ضميري منعني من أن ابني سعادتي على حساب انسانة مريضة تحتاج إلى يد حانية تجفف دموعها وتطيب جراحها .. سأرحل يا سامح للإقامة مع شقيقتي في استراليا وليس معي إلا ذكريات حبك الذي أحيا بداخلي مشاعر جميلة .. أعلم أنك كنت تحتاجني وأنا احتاجك ولكن أسرتك تحتاجك أكثر مني .. لن أنساك وسأظل اتذكر قلبك الجميل الذي غمرني بأحاسيس ومشاعر صادقة .. أدعو الله أن يشفي زوجتك ويبارك لك في ابنتيك .. وداعا يا حبيبي".

رحلت سمية وهي لا تدري أن زوجة سامح وافتها المنية .. ولم يتمكن سامح من قراءة رسالة حبيبته إلا بعد رحيلها .. هكذا شاء القدر أن يفرق قلبين عاشقين كل منهما عاش نبيلا رافضا أن يعيش لذاته ..  ومنذ 20 عاما ورغم فقد سامح الأمل في الوصول إلى سمية إلا أنه رفض أن يستبدل حبها بحب بديل ، ولا يزال يعيش على ذكراها وعندما يشتاق إليها يهرول نحو مظروف "سري جدا " .

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 12900 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.