الخميس , 2 مايو 2024

بسمة عبدالقادر تكتب: نائبة برلمانية تحصد القلوب

= 833


بين زحام هذا البلد العريق تطل وجوه تبزغ بالنور وسط كساد الظلام ، أياد تنثر بذور الرحمة بين الصحاري القاسية، في هذا البلد لا زالت هناك قلوب تؤثر محبة الناس على الفوز بالسطوة وإشباع غرور النفس.

 وفي أقصى شمال مصر في مدينة تطفو على ضفة البحر المتوسط، ولدت سيدة مصرية وبالتحديد في قلب مدينة (الإسكندرية)، حينما التحقت بكلية التربية الرياضية جامعة الاسكندرية عام 1988 لم يتراءى إلى خيالها أنها ستصبح يوما نائبة برلمانية. كانت نشأتها في (دمياط) مدينة شمالية أخرى تمتد شرقا مع ساحل المتوسط، وهناك رشحتها العديد من الجهات كعضو في قائمة (حب مصر) عن دائرة (دمياط) بصفتها امرأة قبطية شاع عنها العمل الاجتماعي والمبادرة إلى أي عمل تطوعي يهدف إلى مساعدة الآخرين.

فتاة قادها شغفها إلى دراسة التشريح وإصابات الملاعب، بدأت خطواتها الأولى في الاحتكاك بالمرضى وتلمس أوجاعهم في ظل تكوينها الجامعي  ، وكأي فتاة مصرية تقدس العمل، باشرت (ايفيلين) عملها منذ السنة الأولى لها بالجامعة ، حيث أصقلت خبراتها في ممارسة العلاج الطبيعي بالعمل في بعض المراكز الطبية الخاصة مثل مركز جليم الطبي، ومستشفى المدينة الطبية بمصطفى كامل، وكذا مستشفى القوات المسلحة التي من خلالها توغلت إلى الآلام الإنسانية لمصابين حرب الخليج من الجنود المصريين، ونمى تواصلها الإنساني بالاحتكاك بمرضى الجزام ومتلازمة داوني والصم والبكم، وكلها خطوات نضجت معها شخصية امرأة أجادت التواصل والشعور باحتياجات الآخرين.

أهَلها هذا التفوق للعمل كمعلمة تربية رياضية بمدارس دمياط المختلفة، ومن بينها مدرسة (اللوزي) الثانوية للبنات، وهناك كانت معرفتي الأولى بها عندما كنت طالبة في السنة الأخيرة بالمدرسة، الأمر الذي حرمني من التعرف إليها عن قرب في ذلك الوقت. لم يتوقف طموحها عند مهنة عادية تأمل من ورائها كسب ربح شهري تشارك به في إعالة أسرتها كغيرها من النساء العاملات فحسب؛ وإنما كان الدافع الخيري لديها متدفق فكانت من أهم متطوعي كنيسة دمياط في خدمة السيدات والمرضى و (أخوة الرب) والقائمة على مساعدة المحتاجين من الأقباط والمسلمين، كذلك امتد نشاطها إلى جمعية الهلال الأحمر، وجمعية حماية أطفال الشوارع، وجمعية اتحاد نساء مصر، وشبكة رائدات العربية، وكذا عضوية المجلس القومي للمرأة، وفي مجلس المرأة عايشت مشكلات المرأة الدمياطية عن كَثَب من المعيلات والأرامل والمطلقات والمرضى ممن قاسين ويلات العلاج بدون تأمين صحي لغير العاملات بالحكومة.

امرأة بحجم هذا النشاط الإنساني والتطوعي، كان لها أن ترتقي إلى المكان الذي يعزز خطواتها في خدمة الناس بعد أن أصبحت عضوة برلمانية نشيطة جدا، كنت واحدة من المحظوظات ممن لمسن مواقفها الإنسانية عن قرب، فأذكر يوما رأيتها تشكو من ألم شديد في المعدة ولم يثنيها ذلك عن إجراء المكالمة وراء الأخرى لتيسير نقل مريض بالكبد إلى إحدى المستشفيات بالقاهرة بعد أن استحال علاجه في دمياط، وموقف آخر لشاب من (سوهاج) لديه قطع في النخاع الشوكي، كان له حظ التواصل معها على صفحتها بإحدى مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تتوانى عن الذهاب إليه عندما طلب رؤيتها لمساعدته ونقله إلى معهد ناصر للعلاج، وسعت  لتأجيل امتحاناته حتى تتحسن حالته، وذلك على الرغم من أن الشاب خارج دائرة مدينتها؛ إلا أن الدافع الإنساني لا يعرف حدود المكان، وعلى الرغم من أن القدر قد يكون له رأي آخر بوفاة الشاب بعد خضوعه للعلاج. ويداهمني فعل آخر أكثر جرأة عندما ذهبت لعشة في إحدى قرى دمياط يقطن بها رجل قدم مع أسرته من المنيا للعمل على جمع القمامة، كان المشهد أكثر إيلاما من أن يمر مرور الكرام دون أن تعمل على توفير شقة مناسبة للأسرة الفقيرة وأن تدبر لرب الأسرة (تروسكل) يعينه على معيشته، تلك أفعال تبادر بها أنفس لا تقوى عيونها على النوم قبل أن تقوم بواجبها على نحو يرضي خالقها.

وفي زوايا آخرى مضيئة تتبعت نشاطها وزياراتها المختلفة، ففي اليوم الواحد أراها في ميناء دمياط تتابع سير العمل في إنشاء مدينة الأثاث ومن ثم في إحدى المصالح الحكومية تتبع شكوى أحد المواطنين، وفي يوم آخر تناقش تطوير التعليم أو قضايا النهوض بالمرأة، أو توفير السلع الغذائية للمواطنين، أراها في الشوارع والمصانع والمديريات ودور الرعاية والجمعيات الأهلية .. وغيرها، حتى أن الأمر الذي أثار دهشتي هو رؤيتها في المسجد! بعد أن لجأ إليها بعض المصلون المسلمون لمعاينة الحالة الرثة لمسجد (المعيني) بدمياط، وليس بالغريب أن تستجيب النائبة القبطية وتزور المسجد وتعاين كل بقعة فيه لترفع شكواهم إلى المسؤولين، غير مبالية بما يمكن أن يثار من نقد لهذه الزيارة.

(إيفيلين متى بطرس) المرأة الجريئة، العفوية، في بساطتها تجذب القاصي والداني، زوجة تلبي حاجات أسرتها اليومية كامرأة عادية  تراها في السوق ولا ينمو إلى ذهنك أنها نائبة في البرلمان، تمارس طقوسها المعتادة إلى جانب تفاقم مسؤولياتها تجاه الناس يوما بعد يوم، ربما لهذا السبب تنال الحب والتقدير، وربما إن تعمقنا في رؤيتنا لأدركنا أن النفس البشرية التي اعتادت العطاء والاستقطاع من حياتها لأجل حياة الآخرين، انصاعت لها الدنيا لتهبها من نفس اليد المُحبة.

سألتها عن طموحها في البرلمان، فكانت إجابتها: "نفسي أساعد كل الناس ويكون فيه انتماء من الناس للبلد"  وقبل أن أسألها السؤال الذي قفز إلى ذهني "ومن أين يأتي الانتماء؟" كانت إجابتها أسبق من سؤالي:"الانتماء من تعليم جيد وصحة جيدة وتوفير إعاشة محترمة وعمل محترم" وأكدت على محاولاتها لبلوغ هذا الطموح الصعب، على الأقل هي واحدة ممن يسعون وراء ذلك بدلا من الاكتفاء بالمشاهدة والتذمر، وما أكثر الناقمين دون سعي، والأقبح من ذلك الكثرة من المسؤولين ممن يسعون وراء الصور والشهرة من اصطناع أمجاد غير حقيقية تدعم من سيرهم الذاتية فقط دون أن نلقى من ورائها نتاج فعلي يلمسه الناس.

وأخيرا كان دافعي للكتابة عن النائبة المحترمة هو ولعي بتسليط الضوء على النماذج الإيجابية في هذا البلد، نماذج صادقة نلمس أثرها مع الناس، نماذج لا تنتظر منا أكثر من الدعم والتأييد لمواقفهم النبيلة التي قد تمثل فارق للبسطاء، وقد ينتقدها من يؤولون النوايا تبعا لهواهم البغيض ليخبو حماسهم، ومن جانبي وغيري من الشباب نسعد بكل نموذج مضيء يعزز بداخلنا الثقة في غدٍ أفضل؛ فنمد بساط الأمل لنستقطب من المثل العليا ما يدعم إيماننا ويلهمنا على العمل، حتى وإن كانت تلك المثل قليلة فيبقى أثرها عميق.

 

شاهد أيضاً

الكاتبة عبير نعيم أحمد تنعي فقيد الشباب أبو بكر عبد الله

عدد المشاهدات = 2243 ببالغ الحزن والأسى نعت الكاتبة عبير نعيم أحمد عضو اتحاد كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.