الجمعة , 3 مايو 2024

‏ مرفت العريمي تكتب: لا عزاء للمسرفين!

= 1395

Mervat Oraimy 2

 

حكاية لا تزال خيوطها متشبثة في عقلي الباطن أذكر  عندما قدمت إلينا معلمة اللغة العربية  فوجدتنا نتناول الطعام ونحن قيام  وبدا على وجهها الاستياء وبهدوء من يكتم الغيظ قالت لنا: تفضلن بالجلوس سأقصُّ عليكُن حكاية .. كان في قريتنا البعيدة رجل عصامي شديد الثراء معروف بالصلاح والكرم ومساعدة الآخرين  وكان  الرجل معروفا عنه بصيانة النعم  فقد اعتاد هذا الرجل ان يجمع ما يتبقى من طعامه ليستفيد منه الطير  والدواب..

 وفي يوم ما ذهب هذا الرجل إلى شخص حكيم يشكوه من وفرة ماله بالرغم من كثرة صدقاته وهو رجل  ليس لديه من يورثه من بعده، فاقترح عليه الحكيم أن يأكل وهو يمشي  فقال الرجل سيسقط مني بعض من الطعام إن قمت بذلك فقال له الحكيم: هذا هو المقصد فإن أردت أن ينقص مالك فعليك بتركها تسقط ولا تجمعها  فالنِّعم التي لا تصان تزول.. 

هذه الحكاية  تذكرتها وأنا أكتب هذه السطور ولا أعلم لماذا هي عالقة في ذهني؟ هل لغرابة الحكاية؟ أم  لأسباب ميتافيزيقية بحتة عن العدالة الربانية  ، يقول الخليفة المأمون “لا خير في الإسراف ولا إسراف في الخير” فهل نحن فعلا نصون النِّعم؟ يقول أحد المتطوعين الذين اعتادوا على السفر للدول الفقيرة “ لو رأيتم كيف يتعارك الناس على شرب مياه عكره  تأنف أن تشرب منها الدواب لما أسرفتم في استهلاك المياه !

إننا اليوم أصبحنا نطالع صورًا متنوعة للإسراف ولا نعترض حتى أصبح الإسراف عادة وجزءًا من الوجاهة الاجتماعية خصوصا في بعض الدول التي يحظى مواطنوها بخدمات مجانية في الكهرباء والماء كإضاءة الأنوار حتى وقت الضحى وبشكل دائم ومتكرر، وفي بعض الأماكن تترك أجهزه التكييف على وضعية التشغيل حتى أثناء السفر!

وقيل قديما  (إذا امتلأت البطنة نامت الفطنة) فلا نعجب من  انتشار الكسل والبلادة بين الشعوب الغنية التي اعتادت الرفاهية وحياة الدعة  فالإسراف في المطعم والمشرب  لا يخلف وراءه إلا عِلَّة البدن وقسوة القلب وخمول الفكر نتيجة الشبع وامتلاء المعدة فأكثر أمراض العصر ناتجة عن الإسراف في تناول الطعام  قال لقمان الحكيم وهو يوصي ابنه (يا بني.. إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة).

والإسراف ليس فقط في تناول الكثير من الطعام بل أيضا في إهداره في الوقت الذي يهدر فيه العالم  ما قيمته 400 مليار دولار سنويا، ينام  يوميا ما يقارب 800 مليون نسمة وهم جوعى وهذا الرقم في ازدياد وقد يصل إلى 600 مليار دولار .

فهناك أوجه أخرى للإسراف كالإسراف في الوقت وتبذيره في اللافائدة بينما يحتاج آخرون لثوان منه لانقاذ حياة إنسان، أو إنقاذ صفقة تجارية من الضياع، أو في حل مشكلة ما.

وكثيرا ما نرى الإسراف في الوقت يصل إلى حد الهدر في الوقت والمال والفكر  فعندما نرى اللقاءات، أو الجلسات التي تدور في فلك الإسفاف وطرح مناقشات خالية من الفكر والعلم تصل أحيانا إلى حد التطرف الفكري والجدل العقيم   فإنها لا تسمن ولا تغني من جوع، ولن تساعد على نهضة الشعوب أو انتشال الشباب من هوة الضياع.

والاسراف عادة ما يؤدي إلى الهدر  فكثيرا ما نشاهد أفكارًا نيرة  تهدر وتظل قابعه على أرفف الحياه في الوقت الذي نشكو فيه من فقر الفكر، و قلة الحلول المبدعة في المؤسسات والمجتمعات .

إنّ التـوازن  فطرة  في الإنسان وقائم في خلق الله كله، لذلك فإن أي خلل يحدث في الموازين الإنسان يغير نمط حياته وحياة من حوله؛  فالإسراف في النوم يضر العقل والبدن، والإسراف في الفكر إمَّا يؤدي إلى التطرف، أو الجنون، والإسراف في الحديث قد يؤدي بصاحبه إلى التهلكه لذلك قيل قديما لسانك حصانك فإن صنته صانك وإن خنته خانك .

والإسراف مرض من أمراض العصر والسبب في إحدث خلل في موازين الحياة وتوزيع  الثروات بين الناس وإن بحثت وراء أزمة المياه أو ظاهرة الاحتباس الحراري، ومشكلات الفقر، والحروب  ستجد أن وراءها أناس أسرفوا  واتخذوا من الإسراف سبيلًا  لحياه يظنونها أفضل .

وحتى يتوازن الميزان  نحتاج إلى تبني فكر اقتصاديّ في كل شيء في حياتنا فالاقتصاد والتوازن يقودان إلى تحقيق العدالة والاعتدال في البذل أو المنع. ولا عزاء للمسرفين

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 10770 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.