تخيل حجم الشعور بالإحباط والمرارة الذي يمكن أن يعانيه كل من يؤدي عملا يرتبط بالتعامل اليومي مع الناس ، حين يجد أن الأداء الجيد والسيئ يتساويان ، وأن من تقدم لهم الخدمة لايفرقون بين الصالح والطالح ، وأن العمل بمبدأ « السيئة تعم والحسنه تخص» هو الأكثر قبولا في مجتمعنا ، تخيل كيف يجب أن تظل قدرة هؤلاء « الجيدون » علي البقاء كما هم رغم عدم وجود تقدير يشجعهم ، و استمرار « السيئون» كما هم لعدم وجود عقاب يردعهم !
ربما يساعد هذا التخيل علي التخلص من آفة التعميم التي تعيب النظر الي كل امور الحياة بعيدا عن التوازن العاقل والتقييم العادل ، لأننا في النهايه بشر نخطئ ونصيب ، نشكو الظلم ونظلم أنفسنا ونمارس الظلم ضد بعضنا البعض ، نحكم علي الآخر بقسوة كأننا معصومون من الأخطاء ، و ننسي الحكم علي أنفسنا بنفس المقياس ، تعلو أصواتنا في الدفاع عما نراه حقا لنا ، وتنخفض في الدفاع عن حقوق الآخر … أي آخر قد نختلف معه هو متهم ومدان ومحكوم عليه أيضا ، دون تقصي للحقيقة او حتي امتلاك تفسير للوقائع ومدي صحتها ، وأحيانا تصبح القيادة في كل شيئ لما يسمي « العقل الجمعي » أي التفكير السائد في المجتمع الذي يجعلنا مثل « السائرين نياما » بلا تفكير إلا فيما يفكر فيه الجميع !
علي سبيل المثال يتسم الهجوم علي الصحافة والإعلام بالتطرف الشديد ، فكلاهما متهم بعدم الإنحياز للمهنية و البعد عن متاعب الناس و الولاء للسلطة ، و التغاضي عن المشكلات والأخطاء وتغييب الوعي ، ولكن حين يسعيان لطرح مشكلات موجودة سعيا للوصول الي حلول لها ، او يقومان بتوجيه النقد للسلطة وأجهزتها ، أو يدافعان عن حقوق الناس ، تتحول التهمه الي « معاداة النظام » والتركيز علي السلبيات وتجاهل الإيجابيات والإضرار بالوطن ! دون النظر الي تعدد المشهد الصحفي والإعلامي المختلف كثيرا في مكوناته و أدواته و أشخاصه وسياساته و أفكاره ، وبين جنباته يوجد ماهو رديء ويجب نقده او مقاطعته لو أردنا ، ويوجد أيضا ماهو جيد و يجب البحث عنه وتشجيعه ، والاختيار في النهاية لمن يشاهد ومن يقرأ ، فهو من يجلب الإعلانات لهذا أو ذاك ، وبقاء أي منهما واستمراره مرهون بمن يختاره الناس ، والناس مختلفون بشده بالطبع.
نفس الأمر يتكرر في النظر الي جهاز الشرطة ، خاصة بعد تكرار عدد من التجاوزات من أفراد ينتمون اليها في الإسماعيلية والأقصر ، وتداول معلومات عن وقائع تعذيب بالسجون او أقسام الشرطة ، وكلها تصرفات يجب أن يلفظها المجتمع بشدة و تجرمها وزارة الداخلية بقوة ، وهذا ماحدث مع بعض من تم التحقيق معهم من رجال الشرطة ، مثل « قناص العيون» في أحداث محمد محمود ، أو من أطلق النار علي شيماء الصباغ في «مسيرة الورد» بالتحرير ، او ضابط الإسماعيليه مؤخرا.
و لكن لا يمكن لمنصف أن يتجاهل أن هناك من يقومون بعملهم باحترام ونزاهة وضمير ، ويحترمون إنسانيتهم ويحافظون علي كرامة مهنتهم وكرامة « البدلة الرسمية « ، ولا يجوز أن يتساوي هؤلاء مع هؤلاء .. ومع كل الاحترام والتقدير لكل شهداء الشرطة ورجالها ممن أصيبوا خلال تأدية عملهم ، ولكل أسرة فقدت أبا أو زوجا أو ابنا لها ، يظل عقاب المخطئ ضروره لإقرار العدل وإصلاح الإعوجاج ، ويظل الحكم المعمم علي رجال الشرطة بأنهم جميعا ملائكة أو شياطين غير صحيح ، وتبقي ضرورة المراجعة المستمرة لأساليب التعامل وإستعادة الثقة ، وجدية النظر في شكاوي الناس وتظلماتها.الدولة أيضا عليها أن تكون منصفة في حكمها فلا تحرم برلمانها القادم من الكفاءات والخبرات التي قد تحمل « شبهة» المعارضة ..
فليس عيبا والله أن تكون هناك معارضة في البرلمان ، و لا أن يكون به رؤساء أحزاب ومفكرون ومشرعون للقوانين ، علي الأقل حتي يتعلم منها المواطن أن الديمقراطية ليست فقط عبر صناديق الانتخاب، فهي مازالت محكومة بثقافة لم تكتمل بعد وخبرة غائبة في بعض الأحيان ، ولكنه يمكن أن يكون في نهج الدولة واختياراتها أيضا.
—————
hebaomar55@gmail.com