الإثنين , 29 أبريل 2024

مرفت العريمي تكتب: ذكاء المسافات..!

= 1483

 

Mervat Oraimy 2
 
كان يتباهى بقدرته العظيمة في التحمل  فما كان من أصدقائه إلا المراهنة على براعته وقوة تحمّله احتساء كوب الكرك ساخنا وهو مزهو بنفسه وهو يتناول شاي الكرك جرعة واحدة  بينما شعر الجميع باحتقان وجهه، أما هو فكان يتألم  من شده الحرارة  فذهب مسرعا إلى أقرب ثلاجة ماء وتناول جرعات كبيرة منه حتى يطفىء نيران الألم  متألما من قهقهات أصحابه,, كثيرون في هذا العالم يراهنون على إلغاء المسافات والمجازفة  بعبور الحدود إلى فضاءات مجهولة  النتائج.. وننسى أنّ نضع حدود وفواصل بين دوافعنا واحتياجاتنا ومن حولنا لننعم بحياة متوازنة حلوة خالية من المنغصات.. نحتاج إلى مساحة رمادية تساعدنا على رؤية السواد الحالك وتفريقه من البياض.

لا غبار من الاقتراب  دون إلغاء الحدود الكافية والمناسبة التي تقينا من الأذى والشعور بالفشل،  فمن العجيب أن تبدو الأشياء مختلفة كلما ألغينا المسافات  فسطح القمر ليس مضيئا إذا هبطنا على سطحه، ولهيب الشمس يذيب كل من يقترب، والمصباح يحرق الفراشة إن لامست سطحه،، ثمة حكمة من وضع المسافات وإلغائها فالسرّ أن نكون سعيدين ونرى جمالية الكون والمخلوقات، فالمسافة بين الشمس والأرض بالقدر الكافي لنتمتع بالدفء وبين القمر والشمس حتى نفرِّق بين النهار والليل.

إن من أكثر أسباب فشل العلاقات الزوجية والأسرية وعلاقات الصداقة هو إلغاء المسافات اعتقادا منا أن هذا أفضل لتطوير العلاقة وتحسينها إلا أن العكس هو الصحيح  فالمساحة الشخصية التي تحيط بالفرد يعتبرها ملكا له، وغالبا ما يصيب البعض حالة من الذعر أو القلق  أو الغضب  فيطلقون ردود أفعال تصل إلى العنف حالما يتخطى آخرون تلك المساحة.

فعلى سبيل المثال إلغاء مسافة الاحترام بين الأب والابن لن يساعد في تربية الأبناء على الأخلاق والقيم، وإلغاء المسافة التي تحدد الأدوار والعلاقة بين الزوجة والزوج يحول الزواج من مشروع شراكة واستثمار للمستقبل إلى مسألة امتلاك وحقوق وواجبات خالية من الحميمية.

وحتى نحافظ على علاقاتنا علينا أن نفهم بأن المساحات الشخصية ليست واحدة بل متنوعة فهناك  المساحة الصلبة التي يتميز صاحبها بالانغلاق  وتبني حاجز نفسي بينه وبين الاخرين وبالتالي أصحاب  هذه الشخصية يرفضون رفضا باتا إلغاء المسافات ولا يرضون إلا بالوحدة والانغلاق بعيدا عن العالم، والشخصية المرنة التي تتمتع بمساحة انتقائية أكبر تسمح فيها  للآخرين بالاقتراب أو الابتعاد بالقدر المناسب، أما الشخصية اللينة فهي التي تستطيع  الاندماج بسهولة مع الآخرين؛ لينة النماذج السابقة تبين لنا أن  ذكاء المسافات تتيح فهما أكبر مع من نتعامل معهم، وترشدنا كيف نحافظ على  العلاقات وتطويرها إلى  الأفضل.

وهناك وجه آخر للمسافة وهي المسافة الشاسعة التي تتخطى حدود المكان  والزمان فنفقد نتيجتها الشعور بالأشياء من حولنا  فالخرس الزوجي مسافة من الصمت الزمني بين الزوجين أفقدهما القدرة على التعبير، وعلى مستوى أكبر من الحياة الشخصية نجد أن الغاء المسافات وعدم إلمام البعض بالمسافات الذكية قد يكون سببا في  فشل المؤسسات والمقصود بالمسافة الذكية هي المسافة  الكافية التي تحقق درجة أكبر من الرضا للطرفين.

 فعلى سبيل المثال  هناك شركات عالمية كبرى أعلنت إفلاسها لإنها رفضت الاعتراف بالمسافة الزمنية  فتمسكت بآليات العمل التي كانت سببا في نموها سابقا مبتعدين عن التجديد  فكانت المسافة سببا في إفلاسها، كذلك الموظف المتمسك بأسس العمل التقليدية التي اكتسبها قبل عشرة أعوام رافضا تبني  فلسفة المسافة الذكية والتعامل مع المستجدات ومواكبة المتطلبات الحديثة  غالبا ما يقبع في مكانه أو يستغى عن خدماته حتى الدول التي رفضت تقدير المسافة بين الماضي والحاضر لم تتمكن من الاستفادة من الماضي والانطلاق منه إلى المستقبل.

إذن هناك من يرفض المسافات والحواجز والأسوار ويبحث عن لا مسافة ولا حواجز مع إن قليلا من المسافات والحواجز تجعلنا نشعر بقيمتنا وقمية الحياة من حولنا وحماية  أرواحنا. 

 

————–
* كاتبة عمانية ومديرة مركز الدراسات بمسقط.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 7539 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.