الإثنين , 29 أبريل 2024

مرفت العريمي تكتب: حَيَاةٌ إلا رُبُع..!

= 1469

Mervat Oraimy 2


من الصعب جدا أن تعيش ربع أو ثلث أو حتى نصف حياة أو بين بينين، الحياة مليئة  بالأنصاف، أنصاف حلول ..أنصاف محبين … نصف  ابتسامة ..نصف رأي  وهَلُّمَ جرا .. فالبعضُ يعتبر الحالة النصفية نوعا من الحياد  بعيدا عن الصداع والمنغِّصات التي يمكن أن تؤرق  صفو حياتهم.  في حين قد يرى البعض أنهم اختاروا حالة (اللاقرار، واللاموقف،  واللا شخصية)  لا رأي لهم، ولا هدف) لمجابهة تحديات الحياة. فالحالة النصفية  من وجهة نظر البعض لا تأخذك إلى مكان محدد فأنت تقبع واقفا بين القرار واللاقرار.

وتحكي لنا قصة  من التراث "أنّ أحد الحكماء عندما  خرج في رحلة مع اثنين من أصدقائه واختلف الصديقان في الطريق فاحتكما إليه فاختار الحكيم أن يلزم الحياد  فتعجب الصديقان من قراره فقال الحكيم: إن قلت أحدكما على صواب فهذا يعني أن أخسر الآخر ونحن ثلاثة والطريق طويل ويجب أن نكمله معا" إذن ليست كل القرارات نختارها فهناك ما تفرض علينا المواقف والأيام.

وأنْ تمتلك  نصف معرفة يعني أن تكون في منطقة وسطى بين الجهل والعلم  حينها لا يعد  الوقت مناسبا للحديث أو التعبير فالحالة النصفية قد تجعلنا نطلق أحكامًا  غير منصفة على الناس دون معرفة الحقائق الكاملة  فأنصاف الحقائق مشكلة  بحد ذاتها.

حكت لي صديقة تعمل معلمة عن إحدى طالباتها التي تأتي إلى المدرسة  في ثياب رثة وأحيانا غير نظيفة ولم تكن تذاكر دورسها  وكانت الطفلة تتحمل العتاب واللوم في صمت وعندما بحثت المعلمة وراء المشكلة مع الاختصاصيّة الاجتماعية توصلتا إلى أن الطفلة  التي لم تتجاوز العاشرة هي من تعتني بأخوتها الصغار في منزل بلا كهرباء ويتقوتون على فضائل إحسان الجيران؛ فالأب سجين، والأم متزوجة من آخر في مكان بعيد.

إذن قد يختار الإنسان الحالة النصفيّة مجبرًا لا بطلا ويفضل  الصمت على الانحياز مع  طرف ضد آخر،  ويختار أن يخسر شيئا واحدًا بديلا عن خسارته كل شيء، وفي الكثير من الأحيان هذه الحالة تكون مفيدة عندما تتعالى الانقسامات ويكثر الضجيج وتتوه الحقائق في هذا  الوقت نحتاج  إلى نبذ التطرف والتعصب حتى وإن اخترنا الانحياز  لطرف (ما) فهذا لا يعني نبذ الآخر لأنه قد اختار الانحياز بدوره أيضا.

وجه الغرابةِ في القضيّة أن المجاهرة  بالانحياز أصبحت ذميمة  في يومنا هذا لذلك أصبح (حزب الكَنَبَة)  – وهو تعبير كنائي وتوصيف لحال الأشخاص الذين فضَّلوا الجلوس في مقاعد المتفرجين بديلا عن النزول إلى ميدان الحياة وهم فصيل من البشر لا يمتلكون المعرفة الكافية لاتخاذ القرار أو تجنبا لاتهامهم بالانحياز.

إن تفشي ظاهرة (حزب الكنبة) ليس محمودا؛ فالعالم يحتاج إلى متخذي القرارات الحاسمة والمناسبة والمصيرية، حتى وإن كانت خاطئة؛  فالاجتهاد  حالة من التفاعل تدفعنا إلى الامام وتجعلنا نميز الصواب من الخطأ، والمجتمعات لا تنمو دون  الاختلاف في الرأي واحترام التعددية في المواقف والآراء.

إن اختيار نظرية (الجمود في المنطقة الوسطى)، والتطبيق الخاطئ لفلسفة "خير الأمور الوسط" دفعت بفكر الإنسان  إلى تجنب اتخاذ المواقف الصارمة من  بعض القضايا التي تستوجب اتخاذ القرارات الحاسمة، وذلك إما خوفاً من تحمل مسؤولية الاختيار، أو رعباً من اتهامات المخالفين للرأي وعادة ما ننتهي إلى حصد السلبيات بديلا عن الإيجابيات.

وللأسف هناك كثيرا من المصطلحات المتداولة في مجتمعاتنا  تعبر عن حالة النصف  فعندما نقول نحن مع الأصالة والمعاصرة وهما  طرفي نقيض أي إننا لم نختار الفرار إلى الامام واللحاق بركب التقدم ولا نجرؤ على الاعتراف بأن الأصالة ككتلة واحدة أصبحت عبئا فكان بإمكاننا أن نستفيد من الأصالة بأن نأخذ منها القدر الذي يفيدنا في الحياة المعاصرة. وهذا ما يعكس بحثنا الدائم عن ثغرات لعدم اتخاذ القرار.

لقد اعتدنا على نقطة الوسط واخترنا الخلط بين المفاهيم بديلا عن اختيار قرار الاعتدال لا الوسط بين النقيضين لدرجة أن المفاهيم اختلطت   فأصبح البخل كنقطة وسط هو اقتصاد، والمتطرف فكريا مثقف، ودينيا متدين. 

إنّ الوصف الأكثر دقةً – من وجهة نظري – للحالة النصفية كان للشاعر والفيلسوف جبران خليل جبران فقد جاء في قوله: "لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صَمَتَ.. فاصْمُتْ حتى النهاية، وإذا تكلَّمْتَ.. فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت وإذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. والنّصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك".


——————–

* مرفت بنت عبد العزيز العريميّة كاتبة عمانية.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 7421 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.