الإثنين , 6 مايو 2024

محمد سعيد محفوظ يكتب: خبز أمي..!

= 2007

Moh Said Mahfouz


انتهى مخزون الطعام الذي كانت أمي تحرص على تجهيزه لي في كل زيارة.. الثلاجة الخاوية صارت تشبه فراغ حياتي، إذ لا أمل مطلقاً في إعادة إعمارها بطعام أمي، الذي كانت تنشغل بإعداده وتعليبه طوال الأسبوع، وكانت تغلِّفه بأوراق الصحف، ثم ترصّه على المائدة بجوار حقيبة السفر، بينما أرتدي ملابسي استعداداً للمغادرة، وتطلب مني أن أضعه في الحقيبة بنفسي، لأنها تعتقد أن الله يبارك في أي مساحة أقوم بتنظيمها، مهما كانت صغيرة!

لم يبق في الثلاجة سوى أرغفة الخبز التي كانت تصرّ على أن أتزود بها، وإذا جادلتها متمنعاً: عندي كتير!! 
ترد: مش حيخسّر! 
– بَقِيَ الخبز ورحلت أمي…

تجدد شعوري بالفقدان، حين لم أجد طعام أمي في الثلاجة.. كم كنت صغيراً حين كنت أعتمد عَلَيْه وأنتظره.. الآن فقط صرت عجوزاً..

كانت تضيق بتشدُّدي في عدم تناول الأطعمة الدسمة، وكانت تنشغل على المائدة بمراقبة أطباقي، وتنبهني في كل لحظة للأطباق المهمَلة: ما شُفتكش بتاكل سلطة! بلّع بالخيار! متنساش الشوربة! حقوم اغرفلك تاني! خُد طبقي، أنا شبعت! أصلي كلت قبل ما تيجي! 

– سأفتقد هذه الحِيَل، التي كانت تشعرني بالطفولة الأبدية، وكثيراً ما تململت منها وأنا سعيدٌ بها.. لو عادت وأمرتني أن أغرق في الدسم سأفعل!

حين خرجَت من المستشفى ليلة رمضان، كانت ترتدي ثياب المستشفى الزرقاء بعد اتساخ كل ملابسها.. كانت تجلس صامتة إلى جواري في السيارة، وكنت أنظر إليها بين الحين والآخر، فأجد ملامحها باهتة ومستسلمة، تحاول أن تستنشق قدر ما تستطيع من هواء البحر عبر النوافذ المفتوحة، فلا يصل لرئتيها إلا القليل..

طلبَت أن نتوقف عند محل دواجن قرب المنزل.. أتاها البائع الذي يعرفها مسرعاً، فطلبت منه عبر نافذة السيارة أن يذبح لها "بطة"، وأخذت منه وعداً بالاتصال بها حين تتوفر لديه الأرانب، فعلَتْ ذلك لأَنِّي ألمحت في الليلة السابقة إلى أني أشتاق إليها.. كانت تفاوضه على السعر بوهن، وكان صبوراً، فقد لاحظ ملابس المستشفى!

استقرت البطة المذبوحة في الثلاجة.. فقد مات الطاهي بعد ثلاثة أيام!

برحيل أمي لن أفتقد مذاق طعامها فحسب، بل مذاق الحياة بأسرها…

شاهد أيضاً

“إجمع ما بقى من بقاياك”…بقلم نبيلة حسن عبد المقصود

عدد المشاهدات = 7251 حين يذهب الشغف في طيّات الفتور. ويستوي الأمران.من قربٍ وبعدٍ… حبٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.