السبت , 4 مايو 2024
إيمان الزيات

قراءة نقدية لمجموعة “جبل النرجس” الفائزة بجائزة الدولة التشجيعية

= 1881

بقلم الأديبة والناقدة: إيمان الزيات 

عن الحكّاء

في مجموعة (جبل النرجس) للأديب سمير الفيل الفائزة بجائزة الدولة التشجيعية ..

كل شئ في الدنيا له قصة، كل شئ له بداية ونهاية وسيرة حياة، وإذا كان التغيير هو سمة الوجود، والتحول صفة جوهرية لكل المخلوقات فلكل تغيير وتحول قصة.

أما عن مجموعة (جبل النرجس) تلك المجموعة الممتلئة بالحيرة والتساؤلات التى تدور حول مفردات الوجود الأساسية، متماهية مع روح العصر غير المطمئنة التى اكتفت منذ أمد بعيد بالمشاهدة لأنها لا تملك القدرة على تغيير كل ما يحيط بها من أمور فاسدة ومغلوطة برغم المحاولات المستميتة ، تلك الروح التى يضيق صدرها، وتمتلئ حواسها بالمشاهدات فينطلق لسانها بالحكي وصفاً وتجسيداً على لسان الحكاّء الحكيم ، وبواسطة السارد المشخصن أو الراوي المشارك وبضمائر عدة (الغائب منها والمتكلم وحتى المخاطب).

والكاتب فيها يدير نمط القص الذي يجمع بين البسيط والرمزي والكوني، ويملك مهارة اقتناص لحظة ذكية وشحنها بالإنسانية حريصاً كل الحرص على تحقيق أكبر قدر من الصدق، والحيوية، والطرافة، والمفارقة المقبولة، راسماً الأبعاد الانسانية الكفيلة باشاعة الحرارة في النص، ومشيراً إلى العادات والتقاليد والجغرافيا والمفردات البيئية والتاريخية بصورة يسهل معها الانتماء للمكان السردي وللشخوص فخلعُ السمة المحلية على النص جزء من أصالته وملمح من ملامح هويته ونسبه؛ فمن الواجب أن يكون ثمة فرق جغرافي أو اجتماعي أو فلكلوري على قصة كتبها كويتي وبرازيلي مثلا.

يملك الأستاذ (سمير الفيل) قلما مدرباً على وصف أشياء كدخول شوكة بالقدم وانحشار اصبع صغير في الحذاء وانغراس سن ابرة في اللحم البشري تلك الأشياء التى اختبرها بالضرورة البشر جميعهم مرة على الأقل في الحياة.

يجيد كتابة نوعية القصص التى تنتمى إلى شئ كان غامضاً ومجهولاً في ذهن الكاتب حين شرع في الكتابة شيئا مقلقا ومحرضا على التدوين في ذات الوقت، يحكي المعاناة بصدق ومع الاستمرار في التدوين يتكشف المجهول ويصبح هناك معنى للامعنى، كما هو الحال في قصتي ( البلكونة، حكايتي مع الجارية)

(جبل النرجس) عنوان يتكئ على الواقعية، والأسطورة ، لذلك فهو كسمت المتن مخاتل ومراوح بين الجمال، والقوة، والحزن، وأثرة النرجسية فهو يسوق للقارئ جميع تلك الاحتمالات قبل الدخول للمتن ليعده للمشاركة الجادة من عتبة ولوجه الأولى للمجموعة التى كان إهداؤها إلى المعذبين، والكادحين، والعابرين، إلى المرأة التى باتت مؤرقة بالأسئلة، ومن الكاتب إلى نفسه عرفاناً منه على ابتهاجها بحب الحياة على الرغم مما رأت وعانت على ما أعتقد، وجميع من أهدي إليهم العمل هم أبطالاً مفعلين داخل النصوص صحبة وفرادى.

الشخوص أطياف داخل صورة كما في قصة (عين حلوان)، و نقاط على شكل هندسي معقد وصعب الحل كما في قصة (هندسة)، أموات وأحياء. عرب وعجم، أرستقراطيين وبرجوازيين.

العلاقات بينهم علاقات إشكالية ونفعية وتشييئية كعلاقة العلائق واللواصق. معيل يعيش معتمداً على العائل أو مترمم يقتات على ميت أو متوحد يتلهى بخيالاته وتسجنه مخاوفة الخاصة، يتساوى الطفل بالناضج رجلاً كان أو امرأة ، والانسان بالطائر والزاحف والحائم والعائم؛ فالمعاناة رغيف مقسم على جميع المخلوقات التى تعيش على وجه الأرض.

الفضاءات المكانية متعددة ومتنوعة من حيث الضيق والاتساع، الطراوة والجفاف (أرض، بحر)، الظاهر والباطن (منور، سطوح، غرف مغلّقة)، ( معرض موبيليات، طريق، مسجد..الخ)، المظلم، والساطع( بيت العائلة في قصة البلكونة، وحدائق عين حلوان).

الزمان متذبذب غير متسلسل فقد تكسر بالتذكر، والإسترجاع، والاستباق، وتعطل بالوصف والمناجاة والحلم.

لغتها هي لغة الأدب السمح، لغة الذين يشكِّلون القاعدة الاجتماعية الكبرى أخذت من العامية حرراتها، وجرأتها؛ ومن الفصحى صحتها، فهي مزيج من هذه وتلك.

لغة حوارية تجمع (السرد بالحوار، بالوصف، والمسرود الذاتي أو المناجاة)، تتمظهر فيها الأصوات الدالة على معانٍ فنجده يقول: “وأوأت، هوهو، نعق … الخ” جميعها يدخل في نسق (باختين) الحواري، مفرداتها دقيقة “بدباشك البنادق”، عنطوزة”.

تنوعت التقنيات بتنوع موقع الراوي، والضمائر، والفضاءات الزمنية والمكانية والأساليب الكتابية فنراه يتكئ على الواقعية، ويفعل بامتياز العجائبية أو الواقعية السحرية التى تقوم على مزج عناصر متقابلة في سياق العمل فتختلط الأوهام والتصورات الغريبة بسياق السرد وتوظف عناصر فانتازية كما هو الحال في قصص (حرنكش، البلكونة، حكايتي مع الجارية) الذين قد اختلط فيهم الواقعي بالعجائبي.

يحسن استهلال قصصه فنجده يقول:

” لو أخرجنا الولد الصغير من الصورة…

لا أحد يعرف..” جميعها بدايات لافتة تثير دهشة القارئ وتجذب انتباهه.

كما أنه لم يدخر أي جهد من أجل هدم الحاجز الرابع أو الحاجز البريختي بين النص والمتلقي بتفعيله لضمير (المخاطب) في غير موضع فهو يخاطبه ويعتذر له ويستأذن منه ويشكو إليه ما ألم به، لقد كان حلمه أن يصل لقارئ يشاركه في النص ويعيد تأويله وانتاجه بمفهومه الخاص، فنصوصه غير موجهة أبداً للقارئ الكسول المروض أو البليد.

ينوع بين السرد الموضوعي المعتمد على نمط الرؤية الخارجية للراوي العليم والتى يتكلم فيها بهو الغائب الذي يمتلك قدرة غير محدودة على كشف الأفكار السرية لأبطاله ويقرن الراوي بالمؤلف، ونمط السرد الذاتي (للراوي المشارك) منتجا ما يسمى بالنص الثنائي؛ فأهم ما يميز أسلوب (سمير الفيل) السردي هو علاقات (التجاور والتزامن والمصاحبة) غير المسبوقة التى يفعلها في نصوصه بحيث نجد( القصة مصاحبة للمتوالية)، و(المؤلف، الراوي، والمروي له، والمتلقي) مصاحبين لبعضهم البعض في نص واحد لا موت فيه لأي منهم، وذلك بواسطة الانتقال الرشيق بين ضمائر المتكلم، والغائب، والمخاطب التى تعمل أيضا على دفع الزمن في جميعا اتجاهاته من زمن السرد الآني إلى الماضي والمستقبل.

كما أن مسألة (تجاور الأساليب) السردية خلقت تلك الخصوصية المائزة لنصوص (جبل النرجس) ووسمت أسلوب (سمير الفيل) بسمت إبداع لا يشبه إلا نفسه فنجده قد جمع بين أساليب كل من (تشيكوف، ويوسف إدريس).

من خلال أنساقه السردية المتسقة مع أنساقهم العبقرية، ففي مجموعة (لغة الآي آي) حين قال إدريس:

” فكرت في أن أجعل للرجل زوجة جميلة صغيرة لتلائم سنه الكبيرة…….؛ فكرت في أشياء كثيرة وتصورت وكأنني الكاتب المحترف كل الآفاق المثيرة والمجهولة التى يمكنني أن أقود إليها القارئ الهاوي النهم، كي أجد تفسيرا لحماس صميدة الرجل العجوز، وصميدة ليس اسمه وأنا لا أعرف اسمه ولكن لابد إذا أسميته أن أختار له لقباً كصميدة فيه حرف صاد مذكر الموسيقى جهيرها ليعبر عن شخصه”.”

وعلى غراره يقول (سمير الفيل) بقصته (عيون حلوان):

“لو أخرجنا الولد الصغير من الصورة ستكون الفرصة أعظم لسبك قصة معقولة حول سبع شخصيات تضمهم صورة قديمة التقطت بالأبيض والأسود. إن الصورة تفكر في طمس بعض الملامح والذكريات ولكنني بقدرة قادر سأكون قادرا على المباغتة، وسأهمل العصافير التي كانت تمر في الفضاء مشقشقة في فبراير من عام 1972 ، وأنا أبحث بكل قواي عن بنت جميلة أحبها.

لقد أخرجته من الصورة عمدا؛ فهو صغير ولا يليق أن يسكن حكاية”.

قصة وفاة موظف لتشيكوف يقول: في “ذات مساء رائع كان ايفان ديميتريفتش …… جالسا في الصف الثاني من مقاعد الصالة، يتطلع في المنظار إلى “أجراس كورنيفيل” ….. وفجأة (وكثيرا ما تقابلنا “وفجأة” هذه في القصص) والكتاب على حق فما أحفل الحياة بالمفاجآت..!”.

يقول (الفيل) في قصته :”كانت جانيت جميلة جمالا باردا ومتعالية وعنطوزة لم أجد كلمة واحدة تحقق المعنى فقررت الإبقاء على الكلمة الأعجمية”.

قدم تشيكوف الشخوص في نصه على أنهما (البدين والنحيف)، وقدم (سمير الفيل) شخوصه على أنهم الملاحظ (س) الملاحظ (ص)، الملاحظ (ن)، طالبة (ع، وظ) ، المراقب (ط) ).

كما تتمظهر روعة تفعيله وبطريقة مائزة لشتى صور وأنواع التناص (تناص الاتصال والامتصاص والاستعارة، والاقتباس) للنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والمأثور من الحكم والأمثال الشعبية كما هو الحال في قوله: ( ما لهذا الرجل لا يفارق كبيرة ولا صغيرة إلا ووضع عليها بصمته، شكر الله سعيكم غفر الله ذنبكم، الحياء شعبة من شعب الإيمان، ابعد عن الشر وغني له، للذكر مثل حظ الأنثيين، ربنا لا تدخلنا في تجربة…الخ)

ونمط (التناص الانفصالي) بين قصة (المعطف) لجوجول، ومتوالية (معطف المطر) لكاتبنا، والتى أعلن فيها موت النص الأول من خلال استماتة البطل الرئيس (هاني الطاعون) على تغيير واقعه ومآله بشتى الطرق ورفضه التام للعودة والعيش في جلباب أبيه بالقرية، بعكس (أكاكي أكاكيفيتش) في قصة (المعطف) الذي كاد يموت من فكرة استبدال المعطف المهترئ الذي يرمز للاعتيادية والخضوع للظروف.

كان هم الكاتب وشغله الشاغل هو شريحة الكادحين، والمهمشين، من نطلق عليهم (ملح الأرض)، حيث راحت موضوعاته وأفكار قصصه تدور حول (ملاحقة الحلم، هضم حقوق هؤلاء المهمشين وامتهان آدميتهم من المهد إلى اللحد، الحب الذي لم يتوج بالزواج، والزواج الذي تلوث بالخيانة…الخ).

كما تناول مناطق العور في القطاع التعليمي كنموذج لسائر قطاعات الدولة مستثمراً عمله لفترة طويلة كمعلم، ومفعلاً مشاعره السلبية كطالب سابق لم يجد من يحبب إليه العلم فأوضح الفساد، والمحسوبية، والنفاق الوظيفي، والتعنت الإداري، والسلطوية، والنظامية الشكلية التى تعتم على الغش غافلة الجوهر من العملية التعليمية والتى تستخدم شعارات الوزارة التى تسبق فيها التربية التعليم بطريقة مغلوطة ومأولة على هواها.

ينعطف من الاجتماعي والاقتصادي والفني مناوشاً السلطوي والسياسي من خلال حوار الشخوص بما يسمى (بأسلوب النقد الضمني) فيقول:

“الحكومة معروفة بملاحتها، ولو أن لها وجه لكان أحمر”

متى العلاوة؟ بعد ان تنتهى زيارة الرئيس أوباما

“ظهرت أول حالة انفلونزا خنازير في مصر لطفلة قادمة من الولايات المتحدة الأمريكية ».

تميز باستخدامه تقنية المعادل الموضوعي لأسماء بعينها..

(نشوى ، كهرمانة، سوسن، صفاء، هنومة…..الخ)

القص لديه عبارة عن تدفق غير منتهٍ للحدث السردي في دفقة واحدة متلاحقة متكأ على أفعال المضارعة، ومولداً في طريقه الشخوص، وراسماً المكان، وعابراً الزمان.

أجاد اللعب على فكرة الفضاء (الكرونوطبي) أو تمفصلة الزمكان الذي يتطلب تقاطع زمان معين مع مكان ما في نقطة يتولد عندها إما الحدث أو الإنفعال.

تتمظهر روعة السرد التسجيلي لطقوس الدفن في متواليته الأولى داخل المجموعة والمعنونة بعنوان (الطريق إلى القبرة)، كما كان من اللافت أن تتحدث المتوالية الثانية بالمجموعة وهي متوالية (معطف المطر) عن الحياة ومشاقها في توازن فلسفي ضمني بين مفهومي الموت والحياة.

تعدد الوصف لما هو زماني فنراه يقول: ” كنت أفضل الكتابة في سبتمبر حيث للحزن جلال لا يوصف، وشجن لا يحد. قصة أبريل

يسودها بهتان عظيم. ولست بالذي يمكنه أن يخرج الرجل من محنته. ليس بيدي مقاليد الأمور. فقط سلة بها ثمانية وعشرون حرفا، لا أكثر ولا أقل.

ومكاني وشخوصي ، وبرع في نمط الوصف السلوكي ذي المحمولات النفسية ” حركت الدبلة الفضية في إصبعي بإصرار غريب”.

رمزية زهرة (البنفسج) نراها بأشكال عدة على قميص نوم زوجة العياشي الخائنة حيث كانت الزهرة على الصرة موطن ولوج الجن للجسد، بينما كانت على مفرش قرمزي بورود صفراء باهتة في قصة ( في الطريق إلى المقبرة) ، وتحول الدموع إلى زهور نرجس في قصة (جبل النرجس)

تعدد الدلالات للرمز الواحد كما في رمز (المنديل) ( المنديل الأحمر أبو ترتر رمز الشهوة والغواية) مقابل (المنديل الأبيض رمز الطهر والزواج) في قصة (معطف المطر) ، منديل(نشوى) في قصة (عيون حلوان) لم يحدد لونه لكنه عرفه بالمواساة والتطييب ويد الحب الحانية ولم يعرفه بلون لأن الحب لا لون له ولا يمكن للمرء أن يعرفه تعريفا واحدا ومحدداً.

كذلك دلالة (الوردة) في قصة (عيون حلوان) حين قال السارد: ” وردة غرستها في وأحضرت شعرها”، وقوله واصفاً (سوسن) في مقطع ظل أميرة بقصة (معطف المطر) : “نزعت وردة

وألقت بها في الطرقة المعشوشبة” دلالات توضح التمايز الشخوصي والشعوري وتباين أثر كلا من الفتاتين على البطل الرئيس.

الوجود اللافت والحضور الملحوظ لمملكتي الحيوان والنبات غير غافل لفكرة أن البشر ليسوا هم الوحيدين بل يشاركهم ويتفاعل معهم تلك الممالك التى تضم (القطط، الغربان، الحدآت، العصافير، العناكب، النمل، الخنافس، السحالي، العرس، أسماك القرش، دود الأرض، الحمام).

(الصبار، النرجس، الياسمين، الفل، الخوخ، الحرنكش، الجلوين، السريس، البصارة )

كما شمل الوصف الموبيليا ونقوش السجاجيد، والمزهريات، ملابس النساء، الأحذية، الألعاب الشعبية وطريقة جمع حمام الغية، المولد، النقل النهري، ورصده لمعتقدات ميثولوجية (كالأسنان المفلوجة، العدد 11 بالكف علامة الحظ العظيم).

كنت أتمنى فقط – وهو مجرد تفضيل شخصي – لو لم يتخير الكاتب لمجموعته اسم نص محدد بها وأن يعمد لابتكار اسم دلالي أو ايحائي أو تأشيري، وذلك لأن اختيار اسم قصة ما يوجه نظر القارئ بشكل مباشرة ليقرأ هذا النص أول ما يقرأ وربما يكون فكرة عامة غير صحيحة عن المجموعة ككل، ففي مجموعة (جبل النرجس) قصص كثيرة أكثر قوة وفنية من القصة الأم، كقصص( هندسة، وعين حلوان، وأن تعذب الكلب).

وعموماً فلقد أدار الراوي الحكيم عالماً متكاملاً داخل مجموعته بما يملك من قدرة مذهلة على التكثيف والاختزال، مسخراً مهاراته في الرصد والتأمل والمحاكاة واعادة تصدير الأفكار، والمشاهد ، والأحداث والمواقف المتدفقة محملة بمحمولاته الشعورية الخاصة متشاركاً مع شخوصه، وقرائه في المتن القصصي المائز والثري.

شاهد أيضاً

وفاء أنور تكتب: حكاية العم “رجب”

عدد المشاهدات = 6238 أبطأت خطواتنا وهدأت من سرعتها اضطرارًا، اضطربت حركة أقدامنا المثقلة متأثرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.