الأربعاء , 8 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: زوارق مبلّلةٌ بماءٍ سومريٍ!

= 1517

razaq(1)


ما أن أعلنت لجنة اليونسكو للتراث العالميّ عن إدراج منطقة الأهوار بجنوب العراق  ضمن لائحة التراث العالمي خلال اجتماعها الذي عُقد في اسطنبول، مؤخّرا، حتّى وصلتني الكثيرمن الأسئلة، والإستفسارات من الأصدقاء عن تلك المنطقة التي جعلها الحدث محور العديد من الأحاديث ، في مواقع التواصل الاجتماعي ، والتعليقات، المدعومة بصور تبرز سحر المكان، وفرادته, فسررت لهذا الاهتمام، وبخاصّة إنّ جذوري تعود إلى  تلك المنطقة ، لذا فقد زرتها في فترات مختلفة،  وكان آخرها في أواخر الثمانينيات، وتحديدا منطقة الجبايش التي تعدّ أشهر مناطق الأهوار، وكنت برفقة الصديق الشاعر فضل خلف جبر الذي أمضى شطرا من طفولته في تلك المنطقة التي يسمّيها البعض "فينيسيا العراق"، ويذهب (كافن يونك ) في كتابه (العودة الى الأهوار) إلى أبعد من ذلك في قوله " إذا أردت الجنّة،  فهي موجودة هناك بين دجلة، والفرات ".

  إنّ الأهوار، التي هي مسطّحات مائية تتكون في مناطق منخفضة على هيئة بحيرات، جعلت سكّانها يعيشون في حالة تماس مباشر مع الطبيعة, فصارت محطّ أنظار السيّاح، وقد انعكس ذلك التماس على أسلوب حياة سكانها المختلف عن بقيّة المناطق.

وقد رأيت خلال زياراتي البيوت العائمة فوق المسطحات المائية، وانتقال السكّان من مكان لآخر باستخدام الزوارق، أو"المشاحيف" كما يسمّونها، ومن المشاهد العالقة في ذاكرتي مشهد عودة التلاميذ من مدرستهم العائمة وسط الماء إلى البيوت باستخدام زوارق صغيرة، ووسائل نقل بدائيّة ابتكرها السومريّون الذين قطنوا هذه المنطقة، واستخدموها في تنقّلاتهم قبل آلاف السنين.

ومن مظاهر الطبيعة في هذه المنطقة كثرة الأسماك، والطيور التي تقصد هذه المناطق طمعا بالدفء في فصل الشتاء قادمة من المناطق الباردة من أنحاء متفرّقة من العالم، ولكن تلك المنطقة عانت الكثير من المشاكل نتيجة الحروب، والظروف السياسيّة التي مرّ بها العراق، فأسفرت عن تجفيف تلك المناطق، فقلّت مناسيب المياه ، وهاجرت الطيور، والأسماك ،وبعد عام2003 عادت مياه الأهوار"إلى مجاريها" ، بفضل جهود بذلت لإعادة تأهيلها، وتخفيف الأضرارمن بينها جهود بذلتها منظّمة الأمم المتحدة للبيئة (اليونيب)، والمنظّمة الإقليميّة لحماية البيئة البحرية، التي وضعت خطة متكاملة لاعادة المنطقة الى ما كانت عليه في السابق، وقامت بدعم الادارة البيئية لمناطق الأهوار العراقية ضمن إطار صندوق مساعدات موّلته الحكومة اليابانية، وهذه الجهود أتت أكلها ، فعادت الحياة إلى الأهوار من جديد .

و لعل سائل يسأل: ما علاقة التراث العالمي، بمسطح مائي مليء بالطيور ،والأسماك، والنباتات، وأناس يعيشون حياة متقشّفة بسيطة ؟ 

والجواب :إن الأهوار تندرج ضمن التراث الطبيعي، إذ تقوم عليها حياة أشبه بالبدائية، بعيدة كلّ البعد عن التطور التكنولوجي ، فرأت "اليونسكو" ضرورة  المحافظة عليها، كشكل من أشكال الحياة التي كانت عليه قبل آلاف السنين، فليس جمال الطبيعة أبرز ما فيها ، إنّما الأهمّ هو تاريخها المرتبط بالسومريين، كما ذكرتُ، وحتّى تسميتها، فإنّها تعود إلى كلمة سومريّة تعني التل، وكما يرى الباحث مهدي الحسناوي في كتابه "الأهوار :حضارة سومر ..جنائن الماضي ..سحر الحاضر"  " لقد ورد ذكر نباتات القصب، والبردي المنتشرة في تلك المنطقة، والتي تُبنى منها البيوت ، في الألواح السومريّة، والأكديّة، والبابليّة، وقد وردتْ إشارة إليها في ملحمة "جلجامش" , وحتى أدوات صيد الأسماك كـ"الفالة" فإنها منقوشة في مسلات ورسومات تلك الحضارات، أمّا سكان الأهوار، فهم، كما يقول هنري فيلد النسل المباشر للسومريين الذين عاشوا في العراق قرابة خمسة آلاف عام".

والمعروف لدى الباحثين إرتباط الحضارة السومرية بالماء، فشيّدوا أبنيتهم من القصب، مثلما شيّدت حضارة "مجان" سفنها من القصب، وكلتا الحضارتين كانتا مستقبلتين للثقافات، ومصدرتين للحضارات، وقد شبّه  الشاعر سعيد الصقلاوي في مداخلة له، بجلسة ثقافيّة، منطقة الخليج، بالزورق الحضاري الذي أعلاه بلاد الرافدين، وأسفله عُمان..

 ولذلك نجد التشابه في المفردات الحضارية: طبيعة، وبيئة، ومنتجا حضاريا عمرانيا، فضلا عن العلاقات الاجتماعية، وليس هذا بغريب، فالسومريّون أقوام هاجرتْ من الجزيرة العربية إلى الرافدين، كما يرى الباحث عبدالمنعم المحجوب في كتابه" ما قبل اللغة"، ووفق هذا، فإنّ السومريين يعدّون من أسلاف العرب الذين هاجروا إلى جنوب العراق، وأقاموا هناك ، وبنوا حضارة مبلّلة بماء سومري، فكانت الأهوار .

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 1885 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.