الأحد , 12 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: العودة إلى مقاعد الطفولة

= 1520

razaq(1)


 
ترتبط أيّام المدرسة بالكثير من الذكريات الجميلة، العزيزة على القلب، وحين نستدعي تلك الذكريات، لا نستطيع أن نتجاوز " شقاوة " البعض، وصبر المعلّمين على تلك "الشقاوة" البريئة، والمشاغبات العفويّة، وتسامحهم، وأذكر خلال المرحلة الإعدادية، كنّا كلّما كثرت مشاكسات زملائنا، والفوضى التي يحدثونها خلال الحصّة الدراسيّة، كان المعلّمون يطلبون  منّا الهدوء، باللين تارة، وبالشدّة تارات أخرى، وذات يوم طلب منّا أحدهم الصمت، لنصغي إلى كلامه، وحين فعلنا، قال" أعرف إنّكم ستهدأون دقائق  لكنّكم ستستأنفون ما كنتم عليه، فالمشكلة ليست بكم"، فنصغي أكثر، ويواصل" المشكلة في  المقاعد"، ويشير إلى مقاعد الفصل الدراسي، وحين نطلب منه توضيحا، يقول" لهذه القطع الخشبية سرّ غريب، فمن يجلس عليها يعود إلى مشاكسات الطفولة" وحين يرانا نبتسم مستنكرين كلامه يقول" لا تستغربوا إنّي لو عدت للجلوس عليها، فسأفعل مثل الذي تفعلون الآن"، فنضحك، ثمّ نعود إلى ما كنّا عليه! 

بعد سنوات طويلة انخرطت في سلك التدريس، ودعيت لحضور حلقة عمل في مجال تعليم اللغة العربية، وكانت المحاضرات تلقى بطريقة تقليديّة، ومن الطبيعي أن يكون الكلام مكرورا، ومملّا ، ولم يمرّ وقت طويل حتى وجدت نفسي أنقطع عن المحاضرة، والمكان، وأعبث بأوراق كانت معي ،ومن ثم محادثة زميل لي يجلس جواري، بصوت خافت، ثم ارتفع الصوت، وبعد قليل توقّف المحاضر، ونبّهني مع زميلي إلى ضرورة الانتباه لما يقول، عندها تذكرت كلام معلمي القديم" وهو بالمناسبة فنان تشكيلي معروف،له مؤلّفات عديدة،  اسمه محمد حسين جودي، رحمه الله" !!

ومهما كان معلّمنا ،الذي كان يدرّسنا مادة الرسم، مبالغا برسم تلك الصورة الكوميدية، لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ تلك المشاغبات لا تنفصل عن حياة كلّ تلميذ، مهما كان هادئا، كونها  ترتبط بالمدرسة ارتباطا وثيقا، مثلما ترتبط بالطفولة، وكلما نتذكّر طفولتنا، لابدّ لتلك الذكريات أن تمر من بوّابة المدرسة، لذلك تبقى أجمل العلاقات تبنى على تلك المقاعد، وتكبر في الفصول، وتترعرع في ساحة المدرسة، وتزدهر خلال ممارسة الأنشطةالرياضيّة، والفنيّة ، ولا ننسى الطابور الصباحي، والإذاعة المدرسية، والمسابقات الثقافيّة، وتفاصيل أخرى كنا نعيشها دون أن نشعر بلذّتها إلا بعد مرور سنوات، وسنوات، فتلك المرحلة تبقى هي الأهمّ في حياة كلّ دارس كونها مرحلة" النقش على الحجر"، والتأسيس للمستقبل، وفيها تبذر المعارف، وتتفجّر المواهب، وخير المعارف مارسخ في الذهن، وتحوّل إلى سلوك موجّه للتربة التي زرعت فيها تلك البذور.

 وخير المواهب ما وجد من يرعاها لتستمر، وتتطور،وهذه مسؤولية المحيط الذي واجبه رعاية أصحابها، في مدارس الغرب تقوم الهيئة التدريسيّة بالتنقيب عن تلك المواهب، وكلّ إنسان في طفولته موهوب، فالله قسّم الأرزاق وتعدّالمواهب من هذه الأرزاق، ولكن الطفل  لا يعرف أين تكمن موهبته، وهنا تقوم الأسرة، والمحيط، والمدرسة بمساعدته على اكتشافها من خلال الإكثار من الأنشطة اللاصفية، وكلّما كثرت هذه الأنشطة، تمكّنت الهيئات التدريسيّة من وضع أصابعها على تلك المواهب، ومن ثم رعايتها، وتوجيهها التوجيه الصحيح، الأمثل.

المشكلة أنّ  مدارسنا، في معظمها، تعتمد في التدريس على التلقين، وتهمل الأنشطة إلّا ما ندر، لأن المنهج المدرسي فيها يمثّل العمود الفقري للتدريس، بينما طرق التعليم الحديثة ترى إن المنهج هو مصدر واحد من المصادر، وليس كلّها، ولهذا يضيق التلميذ ذرعا عندما يكون داخل الفصل الدراسي، يتلقّى المعلومات التي تصل إلى ذهنه بطريقة تلقينيّة، ونظريّة، فيشعر بالملل، من مناهج لا تستوعب طاقته الذهنيّة، والنفسيّة، والبدنيّة، والمعلّم الذي لا يشغل التلاميذ بالأنشطة،يشغلونه بالفوضى، كما رأينا من خلال التجارب العمليّة، ودقيقة بعد أخرى من بدء الحصّة المدرسيّة، يبدأ التلميذ بالتململ، والتمرّد، والمشاكسة التي هي عملية صهر لطاقة كامنة لم تستثمر الإستثمار الأمثل، ومن الطبيعي أن تتحوّل إلى شغب، وفوضى، وكثيرا ما تصبح تلك الفوضى هي المتن، بينما التعلّم هامشا، فتضيع العملية التعليميّة، و المواهب،وتتبدّد الطاقات وسط تلك اللجة .

ومادمنا نبدأ اليوم عاما دراسيّا جديدا، وجب علينا وضع العمليّة التربويّة على المسار الصحيح، وجعل اليوم الدراسي ممتعا للتلاميذ، بحيث عندما ينتهي، ويودّعون مقاعدهم وزملاءهم، يتوقون للعودة إليها، لأنّ في تلك المقاعد أسرارا تربطهم بها، تتعلق بمكان يحتضن طاقتهم، ويربّي مواهبهم، وينمّيها، وبذلك، فلو عاد التلميذ، بعد سنوات ليجلس عليها ، من حيث أنّ طلب العلم يبقى مستمرا" من المهد إلى اللحد" سيجد نفسه مفعما بالحياة ، والنشاط ، والذكريات العزيزة، ذلك لأن طاقته وجدت لها مسارب سليمة .

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 4921 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.