الإثنين , 29 أبريل 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: “السؤال المحرّم” على جناحي بجعة !

= 1739

Razak 2


كلما تكثر أزمات الواقع، وتتعدد مشاكله، نلجأ إلى الخيال، لنحلّق في  عالم أكثر نقاء ، وجمالا، وإنسانية، وغالبا ما نجد ضالّتنا في الأعمال الفنيّة  الخالدة، ومنها العروض الأوبراليّة، التي تجتمع بها العديد من العناصر الفنيّة ، فتحقّق نسبة عالية من التأثير في متابعي هذا الفن الراقي، ومن بين هذه العناصر: الكلمة الشعرية، والموسيقى، والسرد ، وعذوبة الصوت، والأداء، وسينوغرافيا العرض، وأوبرا" لوهنغرين" للألماني ريتشارد فاغنر، من هذه الأعمال التي تبوّأت مكانة مميّزة في العروض الأوبرالية، واكتسبت شهرة عالميّة واسعة، منذ عرضها الأول الذي قدم في المانيا عام 1850م ولآخر عرض تابعه جمهور دار الأوبرا السطانية مسقط، على مدى ليلتين (20و21 أكتوبر الجاري).

 فقد جاء العرض  على شكل قطعة فنية ساحرة، متناغمة مع الموسيقى التي وضعها فاغنر مبدع "الهولندي الطائر"، والعديد من الأعمال الخالدة، فأعطتها شحنة روحية مترعة بالعاطفة، فكانت منطلقا لـ"دراما موسيقية" وهو مفهوم ابتكره فاغنر عام1849 يقوم على أن "تكون الموسيقى عاملا مكمّلا للدراما" ، ومن امتزاج الموسيقى بالأحداث تشكّل عرض "لوهنغرين"  من خلال طرح رومانسي استند على أسطورة"الكأس المقدسة "، وهي كوب استخدمه "يسوع" في العشاء الأخير، وبقي  محروسا بمجموعة من الفرسان المختارين، كما وردت في الميثيولوجيا المسيحية، و"لوهنغرين" واحد من هؤلاء الفرسان، وشاء له القدر أن ينتدب لمهمّة تحتاج إلى روح فارس وثّابة .

تتألف الأوبرا من ثلاثة فصول، تبدأ بجمع الملك "هنري" رعيته لحل نزاع ناتج عن اختفاء دوق طفل في ظروف غامضة، فتتّهم شقيقته "إلسا" أميرة برابانت، ظلما، بقتله،للاستحواذ على السلطة، ويقرر الملك ترك الأمر للحكم الإلهي، بعد مبارزةعلى أن تختار"إليسا" الفارس الذي ينازل نيابة عنها ، فتتوسل إلى السماء أن ترسل الفارس الذي تراه في أحلامها، وهنا تحطّ بجعة، وينزل من على ظهرها فارس غامض يهزم "الكونت تيلر اموند"، ولايقتله، ويتزوج "إلسا"، ويطلب منها شيئا واحدا هو ألا تسأله عن اسمه ،أو مكان قدومه، ويشكّل هذا الطلب لغزا، يجعل الكونت المهزوم يطعن بانتصاره عليه، كما نرى في  الفصل الثاني الذي يفرد مساحة واسعة لمؤامراته مع وزوجته الشريرة على الوجين العاشقين، ويكرران بإلحاح على الفارس الغامض الكشف عن شخصيته ، متّهمين إيّاه باستخدام قوى سحريّة غيبيّة ، لكنّه لم يكترث لاستفزازاتهم ، ويحاول الكونت مباغتته والإجهاز عليه، لكنّه كان يقظا، فيعاجله بطعنة للدفاع عن نفسه ، فيقضي عليه، وتبقى زوجته تواصل الإلحاح على"اليسا" بالطلب من الفارس الكشف عن شخصيّته، فتتأثّر، وتخرق العهد الذي قطعته على نفسها بعدم السؤال عن اسم زوجها الفارس الذي يمتنع عن الجواب، وإزاء ذلك يقول :
لم أت من الظلام
والقنوط
بل من النور والبهجة
أرسلتني الكأس اليكم
وأنا فارسه
و"لوهنغرين" هو اسمي"

فينكشف سرّ"لوهنغرين " فارس الكأس المقدسة الذي تم ارساله لحماية "إليسا"، ومن قوانين الكأس المقدسة أن تتوارى شخصيات فرسانها عن الأنظار، فإذا انكشفت يتوجّب عليها الرحيل، ومغادرة المكان، وفي مشهد مؤثر، يودع "لوهنغرين" زوجته ، ليصعد على ظهر البجعة التي أوصلته إلى هذا المكان في المشهد الأول، ولكن قبل ذلك يعطيها سيفه، وبوقه، وخاتمه، وهنا يجري تحوّل على البجعة، فيظهر شقيقها الذي كان مختفيا، ثم تنزل من السماء حمامة تحلّ محلّ البجعة، وتطير بالفارس مخلّفة "اليسا" حزينة ووحيدة، وبائسة يعصر قلبها الندم على طرح "السؤال المحرّم"، وهو معادل رمزي للثمرة المحرّمة التي أخرجت آدم، وحوّاء من الجنّة .

لقد ناقش العرض الذي أخرجه الألماني هيربرت أدلر  الكثير من  المفاهيم التي تتعلق بالفروسية، والجمال، والوفاء، والفضيلة، ولكن تبقى ثيمة الحب التي تتجلى في عشق "اليسا" للفارس ذي الدرع اللامع، كما وصف" لوهنغرين"  هي الأبرز مقابل محور الشر الذي يتمثل بالكونت، وزوجته، ويتمحور العرض حول الصراع الدائر بين المحورين، ورغم أن النهاية جاءت حزينة إلا أنّ المشهد لم يكن معتما بالكامل، فظهور شقيق "إليسا" المختفي كان حلّا بهيجا  للغز يظهر مع بداية عرض بطله موسيقى فاغنر التي قدمتها الأوركسترا السلوفاكية الفيلهارمونية بقيادة رالف فايكيرت، إذ لعبت دورا كبيرا في تعميق الأحداث، وتأطيرها بهالات رومانسية حالمة، مضمّخة بالروحانيّات التي تملأ مساحاتها، تبدأ مع نزول الكأس المقدّسة في الافتتاحية مع الملائكة في تصوير لحالة النقاء الذي يملأ قلب "إليسا" ، هذه النفحات الروحية ،والوجدانية جعلت العرض قطعة رومانسيّة فنّيّة متّصلة تنقل الجمهور إلى عالم الدهشة، والسحر،لتحلّق به على جناحي البجعة التي حملت الفارس "لوهنغرين" من فضاءات المخيّلة الخصبة إلى مسرح دار الأوبرا السلطانيّة .

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 8095 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.