الخميس , 2 مايو 2024
محطة قطار

“سيرة ذاتية”… قصة قصيرة بقلم فاطمة حمزة

= 1244

كان شباك تذاكر محطة القطار مزدحما، تعالت الأصوات مطالبين الموظف بالعجلة فقد سمع نفير القطار، ركض مختار يلحق الركب، حرص على بدلته الأنيقة وحذائه اللامع حتى لا يدهسه المارة مما يعكر مزاجه المتقلب سريع الغضب، حمل مختار حقيبته الجلد من المدينة الكبيرة مُتجهًا إلى إحدى المحافظات الهامة، حجز لنفسه مقعدًا بجانب الشبَّاك وما أن ركب بجانبه رجلٌ سمين بدأ في التأفف فهو لا يُطيق رائحة العرق خاصة في يوم صيف حارٍّ كذلك اليوم.

شعر السمين بتأفف مختار منه وبدا عليه الحرج، حاول جاهدًا أن يحوِّل المشهد لأُلفة بينه وبين مختار الذي بدت ملامحه جامدة لا يأتلف سريعًا على من بجواره، بدأ السمين حواره عن حرارة الجو الملتهبة، ولكنها لم تكن ملتهبة أكثر مما هو بداخل مختار حينها، بدا الرجل وكأنه يحدث نفسه فليس عند مختار الشغف للحديث، لاحظ السمين اقتضاب حاجبَيْ مختار كلما تمادى هو في الحديث، صمت وقال في نفسه: لعل الشاب الأنيق لا يحب الثرثرة، ربما يعاني مرضًا ما جعله يسافر للمدينة للعلاج وهو الآن في رحلة عودته، أو يواجه مشكلة ما، لعل زوجته غاضبة عند أهلها ويشتاق لرؤية أطفاله الذين أخذتهم معها.. ربما أحدُ أطفاله يعاني حالة سيئة، أو أن أمه مريضة ويسافر لرؤيتها أو أنه يواجه مشاكل في العمل جعلتهم ينقلوه لمكان بعيد عن مدينته، ما علي فقد أردت أن أهوِّن عليه ساعات السفر ولكنه يأبى الحديث معي فلا داعيَ لإزعاجه، أغمض عيني قليلًا لعلِّي أضيِّع الوقت في النوم ذلك أفضل من مشاهدة ذلك الشاب المتأفف بجانبي فالوقت معه مُمِلٌّ للغاية.

أغمض السمين عينيه ولدقائق معدودة ذهب في نوم مصحوب بشخير عالٍ إنزعج منه مختار وبدأ في الفَرْك بجسده على مقعده، التفت يمينًا حاول إلهاء نفسه عن شخير السمين، بالنظر من الشبَّاك، ازدادت حركته تدريجيًّا مع صعود شخير السمين، وبعد قليل جاء عامل البوفيه طلب منه مختار كوبًا من القهوة السادة.

انصرف العامل، رمق مختارُ السمينَ بعينه متأففًا منه، مرت الدقائق، أتي عامل البوفية بالقهوة وهمَّ في تقديمها ولكنها انزلقت من يده ووقعت على بنطال مختار الذي هب واقفا في الحال منزعجًا وصاح في العامل ناهرا إياه، استيقظ السمين على صوت مختار حاول فهم ما حدث وهو يرى توتر عامل البوفيه وغضب مختار عمل جاهدًا على تهدئته وحل الأزمة، أمر العاملَ بالذهاب سريعًا وإحضار ماء لتنظيف بنطال مختار، جلس مختار مكانه وهو في شدة غضبه بينما حاول السمين تهدئته:
– معلش دا حتى دلق القهوة خير، أن شاء الله تروح مشوارك وربنا ينصرك فيه.
وجدها الرجل فرصة عظيمة لاستدراج مختار في الحديث قال:
– يوحي مظهرك الأنيق بأنك على موعد مهم، يبدو أنك تعمل في إحدى الشركات الهامة.
ما زال مختار غاضبًا نظر لملابسه في عصبية، صاح في السمين دون أن يلتفت إليه:
– اسمع يا حضرة، أنا لا أحب اتكلم مع حد ولا أحب الرغي وأنا في الأصل كنت أرغب في حجز كرسي منفردًا لكن للأسف لم استطع الحصول عليه بسبب تأخري في الحجز، فإذا سمحت لا تكلمني حتى يصل القطار محطته ونفترق.

صمت السمين وجاء عامل البوفية ومعه منشفة مبللة نظف بها بنطال مختار ورحل، عاد الهدوء للقطار وفتح مختار شنطته الجلد، أخرج منها ورقة وقلمًا وانهمك في الكتابة، لم يستطع السمين رؤية ما يكتبه بالورقة، شعر مختار بالسمين ونظر إليه متأسفًا على ما بدر منه منذ قليل، قال:
– أنا آسف على العصبيه اللي كلمتك بها من شويه.
قال السمين في سماحة:
– ولا اسف ولا حاجه شكلك مشغول أوي، رأيتك منهمكًا في الكتابة.

– بالفعل فأنا أكتب سيرتي الذاتية ولا أعرف من أين أبدأ، فلدي العديد من المؤلفات والنجاحات واشتركت في الكثير من المؤتمرات وعايشت أحداثًا هامة وكان لي رأي مهم في أزمات عدة مرت بها البلاد.
كان السمين منبهرا بما سمع من مختار قال:
– مِن بداية أن رأيتك عرفت من ملابسك أنك شخصية مرموقة في المجتمع لكن اعذرني فأنا لست على دراية جيدة بالشخصيات العامة ويشرفني أن أتعرف بك عن قرب سيدي.

ارتسم على وجه مختار فخر وظهر اعتزازه بنفسه جليا وهو يعرض على السمن أعماله الهامة في مجالات عدة فقال:
– أنا أعمل في البورصة، ولي العديد من المؤلفات عن سوق المال والأوراق، تتهافت عليَّ الشركات الكبرى لإنقاذها من الإفلاس والأزمات وما شابه ذلك وأسعى الآن للعمل بالبورصة العالمية.
نظر السمين إليه في اهتمام زائد، تلجلج في الكلام وهو يرحب به ويعرب له عن سعادته بالصدفة التي جعلته يقابله ويجلس بجواره في القطار.

– لكن قولي إزَّاي حققت كل دا وأنت سنك لسه صغير كده؟

– أعمل منذ ثلاثة عشر عامًا، فأنا كنت من أوائل الثانوية العامة وتخرجت من كليتي عام 2008 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
فتح مختار حقيبته يبحث عن شهادة الكلية نظر اليها في فخر قبل أن يعطيها للسمين ليتحقق منها.
الإسم: مختار على عبد التواب، ناجح بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف.
اطلع عليها السمين واستنفر في نفسه؛ فليس من الطبيعي أن يسير رجل هام في مركز الشاب الأنيق حاملًا شهادة تخرجه معه، حاول ألا يظهر اندهاشه، أكمل مختار حديثه:
– رشحني أستاذي للعمل في شركة من أهم الشركات الكبرى التي تحمل احتياطيًّا نقديًّا ضخمًا ولكنها لم تكن طموحي، قبلت بها كوظيفة في بادئ الحياة العملية واجتهدت فيها وبذكاء أصبحت أهم موظف بالشركة، لي مؤلفات عدة خاصة بسوق المال والأعمال تستعين بها الشركات الكبرى في تحسين وضعها المالي ويطلبونني بالاسم لتقديم نصائحي لهم.
ظهر على السمين اعجابا بما سمعه من مختار قال:
– ليت كل الشباب مثلك يتبعون مسيرتك نحو النجاح بدلًا عن الولولة على حالهم ليل نهار..
إذًا إلى أي مدى تريد الوصول؟ ألن تكتفي بتلك النجاحات في حياتك؟

اعتدل مختار في جلسته وضع قدما فوق الأخرى وقال:
– قلت لك أريد الوصول للعالمية، فأنا الآن منهمك في كتابة سيرتي الذاتية لتقديمها في إحدى الشركات الأجنبية الكبرى التي تعمل في مجال البترول ويمتلكها أكبر مستثمر أجنبي في الشرق الاوسط، أطمح إلى الحصول على مركز مرموق بها فهى قد أعلنت عن حاجتها لمدير مالي لفرعها في العاصمة.

– وفقك الله، أنت مثال للشاب المجتهد الطموح الذي أحب أن أراه دائمًا، آسف لأني أزعجتك في بادئ الأمر فأنت رجل ذو فكر مشغول دائمًا كان عليَّ أن أنتبه لذلك لكن لا تؤاخذني أنت عائد من العاصمة فهل تعيش في المحافظة الصغيرة.

– لا بل إني ذاهب لعمل، فقد انتدبتني إحدى الشركات الهامة هناك لمساعدتها في أزمتها وانتشالها من الإفلاس.

– أنا سعيد جدًّا بلقائك وأود رؤيتك مرة ثانية.
ابتسم السمين وقال في رجاء:
– هل لي أن أطلب منك ولو فيها شيء من التطفل مني، تِسمحلى بكارت حضرتك؟

آه طبعا.
فتش مختار في حقيبته وقال متحسرا:
– آخ آسف جدًّا من الواضح أن كروتي قد فرغت فالكثير يطلبها مني ولكني سوف أطبع غيرها بالتأكيد.
قال السمين متأثرا:
– ذلك من سوء حظي.

– أستأذنك فالقطار وصل محطته.
عرض السمين خدماته على مختار قائلا:
– معي سيارتي أركانها دائمًا في جراج المحطة وسيكون لي شرف إِقلالك سيدي إلى أي مكان تحب.
قال مختار منتشيا:
– شكرًا تنتظرني بالخارج سيارة الشركة وسوَّاق يُقلني إلى مقرهم.

اتجه كل منهما للخروج من القطار، وقف السمين للحظات فقد نسي محموله على المقعد. عاد ثانية يبحث عن محموله نظر أسفل المقعد وجده بالفعل، وقبل أن ينهض لفت نظره ورقة أسفل مقعد الشاب الأنيق قال لنفسه: لعلها تلك التي كان يكتب بها سيرته الذاتية سوف أحملها لأعطيها له لعله يحتاج إليها.

نظر السمين في الورقة لايجد إلا رسم كروكي لشجرة شامخةٍ فروعُها، مُعوَجٍ جذعُها، لم يفهم السمين مكنون الورقة ولكنه تعدَّى الأمر وترجل متوجهًا إلى مخرج القطار، بحث عن مختار ليعطيه الورقة لكنه لم يعثر عليه.

اتجه لعمله وبعد انتهاء اليوم الشاق ذهب قاصدا إحدى أماكن التسوق الكبيرة اعتاد أن يتبضع منها بعض مخزون البيت الشهري من دقيق وأرز ولحم وبعض المُعلَّبات، نادي السمين على ابنه، الذي يستعين به في مثل تلك المشاوير، ليحمل معه بعض المشتريات، وقف في الطابور أمام الكاشير بعد أن انتهى من التسوق إلى أن جاء الدور عليه صاح:
– يا عبد الرحمن ساعدني، احمل عني بعض الأشياء وضَعْها أمام الكاشير.

مد عبد الرحمن يده يلبى السؤال.
بدأ السمين في عد مشترياته، يضرب موظف الكاشير كود السلعة تلو الأخرى على الماكينة وفور أن انتهي نظر للسمين يبلغه بإجمالي التكلفة لمشترياته وإذ بالسمين يتعرَّف عليه.. إنه هو شاب القطار الأنيق.

تلعثم السمين بينما تعرَّق وجه الشاب الأنيق، أخرج السمين محفظته ودفع ثمن مشترياته ثم طلب من ابنه حمل المشتريات معه، اتجه لباب المتجر مسرعا وخرج دون أن يلتفت وراءه محاولًا إظهار عدم قدرته على التعرف على الشاب الأنيق.

شاهد أيضاً

وفاء أنور تكتب: حكاية العم “رجب”

عدد المشاهدات = 4054 أبطأت خطواتنا وهدأت من سرعتها اضطرارًا، اضطربت حركة أقدامنا المثقلة متأثرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.