السبت , 4 مايو 2024

“رحلة قصيرة”…قصة بقلم صابر الجنزوري

= 3200

أحب جدى كثيرا..يصلى..أقف جانبه .. ينتهى من صلاته..يضمنى إلى صدره ، يمسك يدى الصغيرة يقبلها.
مازالت صورته لاتفارقنى..
عمامته الأزهرية وجبته وقفطانه وجلبابه الأبيض ووجهه الأبيض المتورد بحمرة وردية
وعطره الطيب الرائحة.
لا يفارق القرآن ولا القرآن يفارقه ، أراه يقرأ ، يرتل ، يعلم الأطفال، يأتى إليه الشيوخ يقرأوا أمامه ليصحح لهم القراءات .
كانت لحظة إحتضاره .. تذكرت أذان الفجر بصوته العذب وأخر آية قرأها قبيل صعود روحه إلى السماء.
وقفت أشاهد لحظة الغسل عندما وضعوه على طاولة خشبية .
كان ثغره مبتسما كأنه يرى أشياء لا نراها ، أدخلوه فى الثوب الأبيض ، ربطوا الأحزمة بوسطه وقدميه ،
غطوا وجهه ، قرأوا الفاتحة ، وضعوه فى نعش خشبي وانتقلنا معه إلى المسجد للصلاة عليه.
جاءت لحظة الوداع..
إنهمرت دموعى المحتجزة ووسط التكبير والأدعية نزلت مع التربي إلى القبر ..
مرت لحظات كأنها الدهر ، فتحت عينى ، كل ماحولى ظلام ، صرخت ، صعدت درجات السلم الصغير أبحث عن الفتحة التى أغلقوها بالطوب الأخضر والطين والتبن!
ضاعت كل محاولاتى من صراخ وضربات على الحائط المسدود.
عدت إليه ، القيت برأسى الصغير على صدره وقلت:
أخرجني ياجدى من هنا..
أبى وأمي وإخوتى سوف
يبحثون عنى..
شعرت بشىء يتحرك فى جسده ، تخرج يديه من كفنه ، ينهض ويمزق الأربطة ، يتخلص من القطع القطنية فوق عينيه ، يضىء وجهه ويبدد ظلمة ووحشة القبر..
هدأ من روعى وقال : لاتخف ؟
تحول الكفن إلى زي إحرام ، لفه حول جسده،نهضت معه،ضحكت وغمرتنى سكينة وراحة..
قال : تعالى معى..
– إلى أين ؟
– قصرى وحديقتى
– ألك قصر وحديقة هنا ؟
– سوف ترى كل شيء..
مشينا فى نفق مظلم لم يكن به ضوء غير وجهه الجميل ، عبرناه ، انكشف أمامنا فضاء شاسع ،أشجار وارفة ليس لها ظلال وطريق ممهد وبساتين زهور لها ألوان يانعة وشذى يفوح .
على جانبي الطريق..
وقف أناس وجوههم من نور لتحيته ، يغنون ويرحبون به ، يلوح لهم بالتحايا ، يكبر ، يسبح ، يردد الأذان..
وصلنا إلى قصره وسط الأرض الخضراء الواسعة.
صحت : أنا جوعان..
ابتسم وقال : كل ماحدثتك به نفسك من طعام سوف يأتى لك؟
على منضدة ذهبية كانت الفاكهة التى تمنيتها ، الشواء فى أطباق من ذهب والشراب فى أباريق فضية..
كل شىء حولى كان من ذهب وفضة وأحجار كريمة حتى أعمدة القصر كانت ذهبية!
نهمت ، شبعت ، ارتويت ..
سألته : أين جدتى ؟
قال : انظر هناك ، هاهى أمامك.
جريت نحوها ، أخذتنى فى حضنها ، قبلتنى..
قالت : أنت الغالى ابن الغالى.
كان البهاء فى وجهها كأنها البدر فى تمامه وكأنها من الملائكة..
سألتنى : أ تريد البقاء معنا
أم العودة إلى أبيك وأمك ؟
تلعثمت كلماتى وقلت : هنا الطعام ليس له مثيل،كل الأشياء جميلة هنا ضحكت جدتى وقالت:
ياعكروت تريد أباك وامك .
قال جدى : سوف أعيدك ولكن لا تخبر أحدا بما رأيت و سمعت!
على فراشى وفى حجرتى وجدت أمى وأبى وإخوتى حولى؟
يسألون بلهفة : أين كنت ؟
قلبنا الدنيا بحثا عنك ،
ظننا أنك قد خطفت..
حاولت الكلام ، توقفت عند كلمة “كنت” ولم أستطع أن اكمل جملتى. رأيته واقفا مبتسما لا أحد يراه غيرى ونبهنى محذرا ألا اتكلم ؟
الأن أصبحت فى عمر جدى عندما ذهب إلى عالمه الأخر .
أتأمل براءة وجه حفيدى الصغير وأفكر أن آخذه معى فى رحلتى القصيرة.

شاهد أيضاً

وفاء أنور تكتب: حكاية العم “رجب”

عدد المشاهدات = 6261 أبطأت خطواتنا وهدأت من سرعتها اضطرارًا، اضطربت حركة أقدامنا المثقلة متأثرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.