الخميس , 2 مايو 2024

د. دينا أبو الوفا تكتب: القمة الحقيقية للنجاح

= 1837

جلست الأم مع أولادها امام شاشة التلفاز تتابع مباراة كرة اليد فى اطار دورة أولمبياد طوكيو ٢٠٢٠، بين منتخبى مصر وفرنسا
كان المنتخب المصرى قد أدى أداء رائعا فى مبارياته السابقة حيث هزم فريقى السويد وألمانيا وغيرهم من المنتخبات
حتى وصل اليوم الى مواجهة فريق من أقوى ، ان لم يكن أقوى فريق لكرة اليد عالميا …
كانت المباراه تسير على نحو جيد منذ البدايات حيث ظل يسدد فريق هدف فى مرمى خصمه ، ليرد عليها خصمه بهدف سريع فى المقابل …
سابعه سابعه ، ثمانيه ثمانيه ، عشرة ، عشره
الى ان بدأ الفارق يتسع بعدة أهداف لصالح الفريق الفرنسى …
ظهر علي الأم التوتر الشديد ، فهى مصرية حتى النخاع وتدرك ان خسارة منتخب مصر فى أية رياضة يصيبها ببعض الخيبة …
لكنه عادة ما يكون شعور بالخيبة نابع من حب بل عشق لبلدها قبل ان يكون نابع من عشقها للنجاح والتفوق
خيبة تجاه النتيجة النهائية ، وليس على لاعبى المنتخب ذاتهم .. الا فى ما ندر !!
التفتت الام لتجد ان التوتر ذاته قد ارتسم على وجه ابنها وابنتها … فطلبت منهم تغيير المحطة ومشاهدة شئ آخر …
فهم يقضون اجازتهم القصيرة فى الساحل الشمالى ولا داعى إطلاقا لما يعكر صفوهم ويقلب مزاجهم رأسا على عقب ..
لكنهما رفضا تغيير المحطة وأصرا على انهاء المباراة …
حاولت الام استدراج ابنها بحيلة ساذجة ،
“قوم يا حبيبى ، انزل البيسين مع باباك ، الجو حلو بره … ”
و كأغلب الحيل الساذجة ، باءت حيلتها بالفشل
“مش نازل يا ماما … لما الماتش يخلص … متحاوليش يا حاجّه”
هكذا كان يناديها كلما أراد مداعبتها ، لترد تلك المداعبة دوماً بضحكة وقبلة طويلة على خده
حتى ابنتها التى لم تظهر اهتماماً حقيقيا فى بداية المباراة ، التصقت بالأريكة وراحت عيناها تنتقل مع الكرة يميناً ويساراً ، ذهابا وإياباً
حتى انتهت المباراة وحقق المنتخب الفرنسي لكرة اليد فوزًا صعبًا على منتخب مصر بنتيجة ( 27 – 23) ليتأهل إلي المباراة النهائية بدورة الألعاب الأولمبية طوكيو 2020 . 
حينها ، راحت الام تصفق تصفيقاً حاراً “برافو برافو الله ينور يا رجالة … “
فنظر اليها ابنها نظرة ملؤها التعجب
“حضرتك احنا خسرنا ، لو مش واخده بالك ، بتصقفى على ايه ومبروك لمين بالظبط !!! ”
ابتسمت الأم ابتسامها المعهودة كلما همت بإلقاء محاضرة على أولادها ” تعالوا نطلع نقعد بره فى الهوا وانا اقولك !”
خرجوا جميعا الى الحديقة ، ليطل عليهم البحر الهادئ من بعيد ….
“قوللى يا حبيبى … المنتخب خسر انهارده صح ”
“اه خسر مش كنتى بتتفرجى معانا يا حاجة”
“كنت بتفرج معاكم اه يا لمض… بس هو خسر بجد !! “
“اه والله خسر … اجيبه يحلفلك !!”
“مش بقولك لمض … حبيبى انت متهيألك انه خسر لكن الحقيقة بقى انه مخسرش … وعشان كده بصقف له …
“مش فاهم ”
“افهمك … يمكن اه خسر المباراة دى لكن مخسرش فى العموم ”
“مش فاهم برضه يا حاجة”
“افهمك … هو منتخب كرة اليد عمره وصل للمرحلة دى فى اى بطولة قبل كده”
“لا “
“طيب عمره كسب المانيا والسويد قبل كده “
“لا”
“تمام اوى … عمره أتأهل قبل كده للعب على الميدالية البرونزية زى ما أتأهل من شويه”
“لا “
“تمام يبقى خسر مباراة اه … لكن مخسرش فى العموم …. بالعكس ده كسب كتير وكتير اوى كمان ”
وراحت الام تشرح بحماس وجدية ، وجهة نظرها لعل رسالتها تصل الى اولادها
” تخيلوا معايه سلم طويل مكون من عشر سلمات وقلتلكم اطلعوا السلم ده فى خطوة واحده ، فى قفزة واحده ،، هينفع ، هتقدروا !!!؟ “
فاجاب الاثنان فى آن واحد “لا طبعا” “هايل … وحتى لو ممكن، هتكون معجزة الحقيقة ، او ضربة حظ مش اكتر …
ولو قدر اى حد يعملها مرة ، مش هيقدر يعملها مرة تانيه… ولو عملها هيوصل هلكان وتعبان وغالبا رجله هتتصاب بشكل او اخر ومَش هتشيله بعدها والاصابة هتمنعه من انه يطلع بعد كده اى سلم تانى فى حياته، لانه اختار يطلعه عافيه فهلوه … مش يطلعه بحرفنه وشطارة …. ومش بعيد يقع على جدول رقبته فى يوم من الايام … ايزى كام ايزى جو !!”
واسترسلت مبتسمة ابتسامة هادئة …
” السلم اتعمل درجات لسبب وجيه … عشان نطلعه بالتدريج ، حتى من اسمه…. واضحة !!! نطلعه بالراحة ، بتأني ، بدون ما نتعافى عالفاضى … “
وراحت تشرح أوجه الشبه بين ما شرحته لتوها وبين سلم النجاح …
من الصعب بل من المستحيل على أى شخص أياً كان ، ان يصعد سلم النجاح والمجد فى خطوة واحدة …
عليه ان يأخذ السلم من أسفله ، من بدايته ويشق طريقه الى أعلاه خطوة بخطوة …
فى كل خطوة من تلك الخطوات ، يتعلم شيئاً جديداً ، يكتسب مهارات جديده ، خبرات عديدة ، تكسبه ثقة فى نفسه يوماً تلو الآخر … تؤهله كل تلك المكاسب لخطوته التاليه ، فيكون كفء لها ، قادراً على اجتيازها والتقدم بعدها …
هذا ما فعله ويفعله منتخب كرة اليد …
لقد تخطى مرحلة المنتخب المصنف ضعيفاً بين منتخبات العالم ، ونجح فى ان يخطو اولى خطواته نحو القمة ..
نجح فى ان يصعد بضعة درجات و يجعل العالم يلتفت الى تقدمه بشكل ملحوظ … فانتصر على فرق أقل ما يقال عنها انها فرق قوية ومخضرمة…
اكتسب فى تلك المباريات مهارات جديدة ، وتعلم أمورًا لم يكن ليكتسبها او يتعلمها لو لم يخض التجربة بهذه الجديه والتفانى …
اكتسب ثقة فى ان الهدف الذى لم يحققه اليوم ، سوف يحققه فى المستقبل القريب دون محالة … فقط ما يلزمه هو المزيد من المجهود ، ما يلزمه هو المثابرة على الجد والعمل والاصرار على النجاح والتفوق
ما يلزمه هو مزيد من الدروس والخبرة
فمن سيحصد الذهبية فى هذه الدورة لم يحصدها بالتأكيد فى بداياته …
ومن سيحتل المركز الاول اليوم لم يحتله بالأمس ومن سيحتفى اليوم بالنصر ، احتفى بدروس تعلمها بالأمس…
اما تلك الدموع التى تساقطت حزناً من أعين بعض اللاعبين اليوم ، فقد رأتها الأم ذات فائدة عظيمة ..
فتلك الدموع ما هى الا دافع اضافى للمضى قدماً وتحقيق النجاح ، لتستبدلها تلك العيون يوماً ما بدموع فرحة الانتصار
استمع اليها اولادها باهتمام كعادتهم … فلطالما احترما وجهة نظرها ومبادئها فى الحياة .. الشئ الذى كان يملؤها سعادة وفخرا”
وما ان انتهت من حديثها حتى فاجأها اولادها بعبارة ختامية لم تتوقعها
” يعنى الفريق بيعمل زى ما حضرتك عملتى زمان … ابتديتى سلم نجاحك من تحت خالص يا مامى ، وتعبتى لحد ما وصلتى للقمة … وان شاء الله يوصل هو كمان زيك القمة”
ومع تلك العبارة ، جذبت الام أولادها الى صدرها واحتضنتهم بقوة …
لأنها ادركت ان النجاح الحقيقى الذى احرزته هو نجاحها فى ان تكون قدوة ومثل أعلى لأولادها والقمة الحقيقة التى بلغتها هى حب أولادها لها وافتخارهم بها.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 9938 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.