الأحد , 5 مايو 2024
الكاتب صابر الجنزوري والناقد محسن الطوخي

تحليل للقصة القصيرة “آخر سلالة الفايق” للأديب صابر الجنزوري

= 2173

نص قصة “آخر سلالة الفايق” للأديب صابر الجنزوري

عندما انفصلت عربات القطار ، كنت فى تلك اللحظة داخل القاطرة مع السائق الذى يحاول أن يتفادى القطار القادم فى وجهه ، ولكنه يخرج عن القضبان قبل ان يصل إليه ويصطدم به !

فى تلك اللحظة تجردت من رداء الواقع المؤلم، كنت تسمع موسيقى قصة حب ، تجد نفسك تقبلها قبلة حالمة رقيقة ، تحركك الغريزة والشهوة، تمتد يدك إلى صدرها فتشهق هي وتهرب منك قبل أن تصل يدك إلى نهرها ليجف نهرك ، ويفيض نهرها !

تفتح عينيك ، ترى سعيدا وهو يدخن السيجار فى هدوء ، تحاول أن تتبين ملامحه ،تسمعه يقول :
إن لك عباءة وحقيبة سوداء بداخلها أموالا كثيرة عند أصحاب القرية التى خرجت القاطرة عن القضبان فى حقول قمحها فمات السائق
وها أنت حيا ترزق !
عندما تحسسوا نبضك ودبت فيك الروح
أخذوك إلى المستوصف واستدعوني
عندما قرأوا هويتك !
تعرف عليك سعيد وأعادك إلى بيت عائلتك التى كانت بقرية قريبة من القرية التى كنت فيها مقبلا على الموت .. لكنك كنت ترى مروة ولا ترى سواها حتى وأنت تموت ؟
اهتزت الأرض هزة خفيفة وكان ذلك فى صلاة الجمعة قبل ركوب القطار..ثم رجت رجا ، وحدث الزلزال بعد أن غادرت المدينة!
كنت ذاهبا إلى عزبة الفايق لتبحث عنها حيث
جاءك الهاتف يبشرك أنها هناك فى انتظارك
فصدقت الرؤيا ؟
تذكرت “مروة” بنت الفرنسية التى أحبها عمك ،
كان وجهها بدرا مشوبا بحمرة وردية ،
تذكرت عينيها الزرقاوين التى ورثتها عن أمها الفرنسية فتخيلتها تفرح عندما تراك قادما عليها فترتمى فى حضنك باكية لأنها لم تكن لك ؟
عندما التقيت بها عند عمتك ” زهرة ” للمرة الأولى
كان جدكما محمود يضاحكها حتى أتيت وقال وهو يشير إليك : هذا واحد من عائلة الفايقين التعساء ؟
التقت عيناها بعينيك ، لمست كفها الصغير ، فكانت البداية التى أسكرتك وأسكرتها ..
مات عمك ، أخذتها ” كاترين ” إلى فرنسا، انقطعت أخبارهما بينما بقى الوصل بين روحيكما حيث كنت تراها فى حلمك فتراك فى حلمها ، تشكو لك تعاستها فتشكو إليها تعاستك ،تبثها حبك ، تصارحك بعشقها.
ظل العشق فى الرؤيا يقف عند حد القبل !
نسيت العباءة السوداء واصحاب القرية التى
كنت فيها، تطوف بخيالك أشباح سعيد ومحمود وشفاه مروة القرمزية وبرنيطتها الفرنسية وشعرها الأشقر الذى يغازل جبهتها البيضاء، وعمتك التى أخبرتك مروة انها ماتت !
بدأت تفيق على سماع صوتها وسعيد الفايق جالسا أمام فراش جدك محمود الذى كنت تنام فيه :
أنت محمد أحمد الفايق وانا مروة حسين الفايق.. تتداعى المشاهد المشوشة فى جمجمتك المكسورة التى انطمست بها كل الأحداث و نزفت فى حقول القمح ..
فى يوم جمعة بعد أن بدأت التعافي،
يرتدى سعيد عباءته ماركة
الإمبريال الإنجليزية السوداء
ويعطيك عباءة أبيك وكان
جدك محمود قد اشتراهما فى الحج ..
تعجب عمك سعيد من إصرارك على أخذ الحقيبة معك إلى المسجد فلم تخبره أن مروة طلبت منك ذلك فى الرؤيا الأخيرة !
تذهبان إلى المسجد ، تجد الدراويش قد تحلقوا حول شيخهم ، بدأوا حلقة الذكر على صوت المنشد الذى يضرب بمسبحته على عصاة معدنية محدثا إيقاعا يطرب له المجاذيب ، تخترق الحلقة، يأتي الشيخ يقبل يديك ويعطيك الخرقة ،
تخلع عباءة محمد الفايق ” أبيك “
وترتدي الخرقة المهترئة ؟
تفتح الحقيبة وتنثر كل أموالك
فى الهواء ليلتقطها الدراويش ؟
أدهشك أن الشيخ يشبه أبيك الذى رأيت وجهه فى الرؤيا وكان يرتدى نفس الخرقة التى أعطاها لك الشيخ ويأمرك بالتوجه إلى المقام ؟
تذكرت وجه مروة ضاحكا مثلما رأيته، تخيلت شفتيها فتحست شفتيك التى لم تصل إلى النهر الذى بصدرها ؟
تهلل وجهك وأنت ترى النور قادما عليك من وجهها وهى فى بردة خضراء وطرحة خضراء وليست البرنيطة الفرنسية فتهتف : يا الله ، لقد تحققت الرؤيا ،لقد كانت تدلني عليها ؟
تقبل عليها بعد انتهاءها من الصلاة،
تجلس القرفصاء فى حضرتها ، تحاول تقبيل كفيها لكنك لا تستطيع ليس لأنها سحبت كفيها قبل أن تصل إليها يدك ورأسك التى انحنت فى اتجاهها ولكن لأنك رأيت حاجزا وهميا وسورا عاليا وقف بينكما !
تناديها : مروة ؟ انا من الفايقين يامروة؟
لكنها تصدمك قائلة:
أنا لست مروة ؟
لم تصدقها ، ارتفع صوتك غاضبا :
أنت مروة ، لمَ تكذبين علي؟
انت من الفايقين مثلى يامروة؟
ترفع كفيها إلى السماء وتتمتم بكلمات لم تسمعها، وتنهض فى طريقها للخروج ،
تكاد الحيرة تقتلك وتسأل نفسك:
إذا كانت هذه ليست مروة فمن تكون؟
تجيبه فى هدوء العارفين :
أنا ” روضة ” عمتك فى الطريق
يا بن الفايق ،أ تذكر الشيخة روضة التى أعطتك العهد وباركتك عندما كنت فى حضرة مولانا
الفايق ” جدك محمود “
وقلت له أنك سوف تكون
آخر سلالة الفايق !
ها قد قصصت عليك ما تحب أن تعرف منذ أن رأيت مروة فى حضرة سيدنا وحتى جئت الأن لحضرتنا ؟
ها قد التحمت أجزاء جمجمتك التى لحمها جدك وأسيادنا وأجروا لك العملية بعد ان نقلوك لفراش جدك وأعادوا جمجمتك لسيرتها الأولى ؟
لم تعد فى حاجة إلي ولا تسأل كيف حدث ذلك وجدى قد مات منذ زمان بعد أن مات أبي ؟
لا أستطيع أن أقص عليك أكثر من ذلك !
تعود الذاكرة إلى محمد الفايق ويطوف بخياله وجه روضة بهيئتها الملائكية عندما كان فى نفس المقام يبكى وعندما قال لها فى حضرة جده أن مروة تشبهك رغم أنك أكبر عمرا ولا يظهر ذلك عليك !
خنقه البكاء وسأل : لماذا حدث لى ذلك؟
قالت : أنت لم تقابل غير قدرك والمكتوب لنا هو ما يحدث دون زيادة ولا نقصان.
سأل : هل كنت أستطيع تغيير المكتوب ؟
ضحكت قائلة : لا أنت ولا جدك الفايق
وأردفت فى أسى : لا أحد يستطيع تغيير قدره.
سألها فى استسلام : ومروة ؟
صمتت ، ذرفت دمعة ، ترجاها..
قالت فى أسى :
ماتت مروة فى الزلزال؟

——————–

الرؤية النقدية بقلم / محسن الطوخي

من أبرز إيجابيات القصة السرد بضمير المخاطب، فهو من الضمائر التي يندر استخدامها، وتحتاج مهارة خاصة. وقد أدار صابر الجنزوري السرد بهذا الضمير بمهارة وحرفية.

ويأتي المخاطب في السرد بنمطين:

السرد بالنمط الإيهامي وفيه يوجه الراوي الخطاب لشخص آخر، غالبا مايكون البطل في الحكاية، وفيه تكون معلومات الراوي أكبر من معلومات الشخصية.

أما الثاني فهو النمط المثالي، ويبدو فيه الراوي كما لو كان ضمير الشخصية القصصية، وتبدو فيه معلومات الراوي مساوية لمعلومات الشخصية، كأنهما ذات واحدة، فلا يرى القارىء إلا ما يراه البطل أو يتذكره في اللحظة الراهنة. وهذا هو النمط الذي نراه في علاقة الراوي بآخر سلالة الفايق.

ومن علامات هذا النمط أنه يمكن ببساطة تحويل السرد فيه إلى ضمير المتكلم، لكن يتميز المخاطب بارتفاع النبرة الوجدانية كما نلمس في المقطع الختامي من القصة.

والقصة رغم قدرتها على تقديم تيمة مدهشة ومحفزة على الاستمرار في القراءة، لا تبلغ مرحلة إرضاء القارىء، حتى مع تكرار القراءات، فبعد كل قراءة يلح عليه السؤال: طيب .. ماهي الحكاية؟ . ويظل نفس السؤال يطرح نفسه مهما تعددت القراءات.

ولأن التيمة مدهشة، لم أطاوع نفسي التي راودتني بالانصراف عن النص.

ينقسم الخطاب في القصة إلى قسمين:

القسم الأول: يتعلق بالواقع وأحداثه المتلاحقة.

القسم الثاني يختص بذكريات الشخصية الموجه لها الخطاب وهي محمد آخر سلالة الفايق.

وقد اقتضى تكنيك السرد أن يمتزج النوعان ويتداخلا، فتتخلل الأحداث الآنية أحداث من الماضي عن طريق التذكر.

أولا: الأحداث الآنية:

يتعرض محمد الفايق لحادث قطار بعد مغادرته المدينة. يسقط مصابا في حقل قمح، يتعرف عليه أهالي القرية، فيحضر عمه سعيد ويقوم بنقله إلى بيت العائلة، ويضعه في سرير الجد محمود الفايق، ويخبره أن له لدى أهل القرية التي أسعفته عباءة وحقيبة نقود.

بعد نقاهته يصحبه عمه سعيد إلى مسجد القرية، يرتديان عباءتين اشتراهما الجد من الحج. وفي المسجد يلقاه شيخ الدراويش الذي يشبه أبيه كما رآه في الرؤيا، يقبل الشيخ يده، ويسلمه الخرقة المهترئة التي رأى والده في المنام يرتديها، ويأمره الشيخ بالتوجه إلى المقام.

ثم الخاتمة التي تدور في جو يشبه الرؤيا أو الأحلام، إذ تقبل عليه مروة في بردة خضراء، وطرحة خضراء، يجلس القرفصاء في حضرتها بعد انتهائها من الصلاة، وينشأ بينهما حاجز خفي، يحول بينه وبين تقبيل يدها. وبدا له أنها لا تتعرف عليه، فيناديها ولكنها تنكر أنها مروة. وتعلن له أنها عمته (في الطريق) روضة. وتذكره بنبوءتها القديمة لجده في ذات المقام بأنه سيكون آخر سلالة الفايقين، وذكرت له كيف أن الأسياد هم من أصلحوا جمجمته (وأعادوها سيرتها الأولى) ، وأن ماحدث له قدر ومكتوب، ولا يمكن تغييره، وأن مروة ماتت في الزلزال.

ثانيا: أحداث الماضي التي أتت على هيئة ذكريات، ويدرك القارىء من خلالها طبيعة علاقة محمد الفايق بمروة، فهي ابنة عمه حسين من زوجته الفرنسية. وقد هاما ببعضهما حبا، لكنه بشكل ما لم يصل إلى مرحلة تحقيق الرغبة في الوصال في أي وقت. فبموت العم ترحل الزوجة ومعها ابنتها إلى فرنسا، ولا يلتقيان بعدها أبدا إلا عن طريق الرؤى والأحلام.

———

من الملاحظات الدالة تعدد الشخصيات، وتعدد الأماكن، ووفرة الأحداث وتزاحمها، وهي أحداث لم يقدم النص لأغلبها تبريرا ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فأغلبها لم يوظف في الحكاية.

على سبيل المثال لا الحصر:
– وجود الفايق في القاطرة مع السائق؟
– تزامن الحادثان، الزلزال،وخروج القاطرة عن القضبان.
– منح روضة العهد للفايق. العهد في الصوفية بمثابة بيعة.
– التشابه بين مروة وروضة.
– ظهور مروة بالبردة والطرحة الخضراوين بدلا من البرنيطة الفرنسية؟
– موت مروة في الزلزال؟
– حقيبة النقود، ولماذا كانت لدى القرية محل الحادث. ومادلالة القائها ونثرها على الدراويش؟
– التقينا بعباءات كثيرة في القصة. ( العباءة التى ذكر أنها مع حقيبة النقود في القرية، والعباءتان اللتان اشتراهما الجد من الحج، بالإضافة الى الخرقة المتهرئة التي منحها شيخ الدراويش ).
هذا غيض من فيض، فلازالت عناصر كثيرة في القصة مجهولة الدلالة، أو لم يوظفها النص لإنتاج دلالة تخدم التجربة.

——-

القصة تحتمل العديد من التأويلات، والإسقاطات. بدلالة استخدام اسم ” الفايق ” كلقب للعائلة. التي وصفت بالتعاسة على لسان الجد، وبدلالة الزلزال الذي سبقته هزة أرضية وتحديد يوم الجمعة كبداية للأحداث الهامة. وأيضا خروج القاطرة عن القضبان مع الوضع في الاعتبار ما اكتسبته القاطرة أو القطار من دلالة في النثر الأدبي.

– ولا يخفى بالطبع الحس الصوفي الذي نجد ملامح منه في أغلب إبداعات صابر الجنزوري، فمفرداته متعددة في النص كالرؤى والأحلام، وذكر الحضرة، والكرامات التي تتم على أيدي الأسياد، إضافة إلى دراويش المسجد وشيخهم، والمقام، والخرقة.

أيضا لا يفوتنا التناص مع ألفاظ الذكر الحكيم مثل ( أصحاب القرية / رجت رجا / فصدقت الرؤيا / ها قد قصصت عليك / وأعادوها سيرتها الأولى).
____

الفكرة / التيمة

أتت الفكرة على شقين، وكأنهما فكرتان تمت محاولة دمجهما في سياق واحد. بعد أن نستعرضهما سوف ننظر فيما إذا كانتا تصبان في محور واحد، أو تخدمان محور واحد.

– التيمة الأولى:

العشق/ الفراق، من خلال قصة الحب التي نشأت بين محمد آخر سلالة الفايق وبين ابنة عمه التي أنجبها من الزوجة الفرنسية. ينفق الفايق عمره أسير هذا العشق المستحيل، فالمحبوبة صحبتها أمها الى فرنسا بعد موت العم، وهو هجر قرية العائلة وسكن المدينة، والقصة تدور حول محاولة الفايق لقائها بعد ان أخبره هاتف بأنها في عزبة الفايق تنتظر لقاءه. لكن العاشقين يتعرضان لحادثتين متزامنتين. الزلزال تموت فيه مروة، وخروج القاطرة التي يستقلها عن القضبان وإصابته بكسر في الجمجمة. لم يتم اللقاء إذن الذي كان وشيكا لأسباب قدرية خارجة عن إرادة الطرفين.

– التيمة الثانية:

الصوفية، من خلال النبوءة. انتقال العهد من الفايق الكبير إلى محمد الذي وصف بآخر سلالة الفايق على لسان العرافة التي ظهرت في الخاتمة باسم ” روضة” . ظهر الجد محمود في مشهدين الأول لدي العمة زهرة وبدا صاحب حس ساخر عندما يصف عائلة الفايق بالتعساء. والمرة الثانية عندما تذكره “روضة” باعتباره (مولانا الفايق) وتصف نفسها بأنها من أعطته العهد وباركته فهي بمثابة (عمته في الطريق). المروي عنه إذن سليل الولي، وحامل العهد، والنبوءه تقول أنه آخر سلالة الفايق.

الاستنتاج: اتفق الخطان في سعيهما لتأكيد العنوان “آخر سلالة الفايق”، فتزامن الحادثين الزلزال/ القاطرة، حال بين التقاء العاشقين وقضى بانقطاع نسل الفايق.

ولقد كان يمكن في ظنى الاكتفاء بالتيمة الأولى، إذ لم تضف التيمة الثانية إلا توفير خاتمة وجدانية، لكنها في الوقت ذاته أثقلت النص، وأضافت بعدا صوفيا لم تكن الفكرة الأصلية في حاجة ماسة إليه.

شخصيات القصة:
الراوي محمد الفايق
العم سعيد الفايق
مروة الفايق ابنة الفرنسية، والعم حسين
الفرنسية كاترين
العم حسين الفايق
العمة زهرة
الجد محمود
شيخ الدراويش
الشيخة روضة.
___

الأماكن:
القطار وحقل القمح
بيت العمة زهرة
فراش الجد محمود
مسجد الدراويش.

——-

القصة عامرة بالشخصيات، والأماكن، والأحداث، وتتماس مع أفق السياسة، والتصوف، وتعج بالمشاعر الفياضة ، وبالعشق الحسي. وفيها انتقالات في الزمن ذهابا وإيابا، وتماذج بين الواقع والخيال.

ربما أرهق كل ذلك القصة التي أحسبها تيمة رواية بفضاءاتها المفتوحة والسخية.

(تحية تقدير لإبداعك أخي صابر)

شاهد أيضاً

وفاء أنور تكتب: حكاية العم “رجب”

عدد المشاهدات = 7197 أبطأت خطواتنا وهدأت من سرعتها اضطرارًا، اضطربت حركة أقدامنا المثقلة متأثرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.