دائما ما كان ولعي بالقراءة واقتناء الكتب مثيرا للعجب لمن يحيطون بي من أهلي وأصدقائي؛ و يرجع مرد عجبهم في انعزالي لفترات متقطعة من الوقت لصحبة كتاب ، أو قضاء بعض الساعات بالمكتبات العامة ، والأكثر إثارة لدهشتهم هو ما أنفقه من مال على اقتناء الكتب والتي لا تمثل أي وسيلة شيقة لجذب اهتماماتهم؛ فقد كانت أعينهم معلقة على ما هو أكثر أهمية واحترازا للفائدة، فكانت فلسفتهم الحياتية تقوم على إدخار المال من أجل الغد، وهي الفكرة الأكثر عقلانية لكل من يحتضن الحكمة لهذا العالم.
ومن هذا المنطلق يجدر بنا أن نتلمس حياة كريمة من وراء الإدخار الذي يفك كربة أو ينتشل غريق، إلا أنني دائما ما اصطدم بهذا الفكر القائم على أن المال المدخر يؤول بالأخير إلي عشرات الألاف من الجنيهات التي تبعثر في ساعتين يقرر فيهما الأهل إقامة عُرس في إحدى الصالات الفخمة مع وجبات العشاء التي يستلذ بها المدعوون ممن ينهشون لحوم أصحاب الفرح مع كل قضمة تدخل في جوفهم!
وفي غضون أيام قليلة تختفي ملامح تلك الفرحة التاريخية ويكف الحديث عنها، أو تختزن الفتاة مالها لأجل تصميم لوحة فنية شديدة الأهمية بالمنزل تتجسد في دولاب (النيش) الذي يحرم لمسه على القاصي والداني ليرقد بشموخه المعماري لآخر العمر دون أن يعي أصحابه السبب وراء اقتنائه إلا لمجاراة العادة، تلك العادات التي تبيح إنفاق المال ببذخ على صور وهمية سعيها الأول لإرضاء الآخرين في مبارزات تنافسية لمجتمع لا مظهري بالأقوال، شديد المظهرية بالأفعال والأفكار، مجتمع يستكثر مئات الجنيهات على تغذية العقل والروح في حين أنه لا يأبه بإنفاق الآلاف بل والملايين لسد شهوة الجوع والأنظار.
ومن وراء تلك اللمحة على سلوك وفكر لا يتغير، غزتني تجربة نيش الكتب، فأي شئ يجده القارئ أغلى من الكتب ليضعها في نيش يحظر لمسه لسنوات العمر إلا لمن يقدر وزنها وقيمتها؟! وأي شئ يملك الإنسان أهم من عقله وقلبه حتى يحرص على تربيتهما وتدليلهما بكنوز المعرفة وثراء القراءة؟!