السبت , 11 مايو 2024

المـفتــون..قصة قصيرة!

= 2015

Kareem Aly

بقلم – كريم علي

 

ما قلَّ عن الاعتدال عجزٌ وظلمٌ، وما زاد وطغى عصفٌ وفتنةٌ.

الصدفةُ غيبٌ. ولكنه غيبٌ يتمنى الناس حدوثه على غير عادة الخوف والحذر من الغيبي الضبابي غير المعلوم . ربما لارتباط الصدفة في الأذهان بالبدايات المفاجئة والتحولات الوردية والنهايات السعيدة، إلا أنها في بعض الأحايين تجلب الهموم الثقال خلف ستائر السعيد من الأحداث!!

هجمت الصدفة على الشاب العشريني المُهندم كثيف الشعر رياضي الجسم مفتولِ العضلات، انتظره قدره المحتوم عندما وقف المصعد قبل أوانه المُحدد من قِبَله، وانفتح الباب على وجهٍ مُشرق صبوح فاتن الجمال. صاحبة الوجه شابة أنيقة بدا عليها مظاهر الثراء والاستقراطية، ممشوقة القوام، مثالية الوزن، شقراء، عيناها النجلاوان زرقاوان كالبحر في هدوء أمواجه تسرُّ الناظرين.

انجذب لجمالها منذ الوهلة الأولى، وبراعة البوح بأنوثتها الناضحة عليها..تبادلت العيون الكلمات، ولفت انتباها من خلف عدسات نظارتها السوداء الثمينة مظهره الانيق الدال على ثراء وارتياحية طبقية.

الأنوثة  كنز الأنثى الدفين بفطرتها منذ خلق الله حواء. الأنوثة هي دلال الجمال ورقة الطبع ولطيف الكلام وعذبه..برغم امتلاك جميع الإناث لفطرة الأنوثة ــ بتفاوت نسبها ــ قليلات منهن من تمتلك قدرة التعبير عنها بلا كلام، وبراعة البوح بامتلاكها من غير ابتذال أو تدنٍّ!

علم بكونها قاطنة جديدة بالعقار، وتكرر اللقاء وزاد الشغف وتوطدت العلاقة..علاقة آسر الجمال بلا نضوج الحب، ومهادنة بلا عاطفة..وجاهزية مادية واهية!!

الحبُّ نعمةٌ كبرى وبليةٌ شديدةٌ الوطأةِ.  نعمةُ إذا امتزج القلب بالعقل، والجمال بالروح، والقول بالفعل. بليةٌ شديدةٌ إذا صارع القلب العقل، وتوحد الجمال بالجسد، وصارت كلمات الحب فقاعات هواء  بغير فعل يدعمه ويُثبته.. العقل ميزان العلاقة بين الرجل والمرأة، فهو الكاشف لما يُخفيه طغيان القلب، و مركز اتزان هليمان الشهوة وزيناتها..  إن اختفت بصمته في  أي علاقة كانت،  أصابها الخلل إما بالزيادة او بالنقصان .

رُسمت العلاقة بين الشاب والفاتنة بدون بصمة العقل والمنطق خاصة عند الشاب. فكان منطق الفاتنة ابن بيئة طبقتها. فحواه عدم الاكتراث أو الوقوف كثيرًا عند العاطفة ما دام الشروط والوجه المادي الطبقى متوفرًا، شريطة عدم المساس بطريقة الحياة المتحررة من حيث المظهر والملبس.

أما منطقه جاء بلا منطق على غير عادته العقلية المتزنة. فقد حبسه الجمال في زنزانة خانقة، أغلق منافذ الإدراك والوعي، عشق المظهر وفُتن بتفاصيل الجسد وقوامه، تاركًا خلف جمالها الفكر والطبع والروح، كالسائر في وضح النهار مغشيًّا عليه، أو كالذي سُلط علي بصره وبصيرته ضوء عالٍ خادع جعله أعمى لا يقوى على رؤية الحقيقة أو مواجهتها .

العيب في بني آدم نعمة، والعيب في المحبوب وقاية من الفتنة والتعلق بسراب الكمال، فإن فتنَك في المحبوب جمال، هذَّب العيب النقيصة التي لا مفر من وجودها حبُّك و تعلقك، وإن غابت البصيرة القادرة على كشف العيوب أصبح المحبوب فتنة شديدة قد يخسر صاحبها نفسه ومن حوله.

كبرت فتنته بجمالها وبقي أسير أحواله وتفاصيله، ذليل استبداده وفورانه، حتى تخلى عن مبادئه التي اعتبرها في الماضي لا مساس بها، وافق على أشياء تتعارض مع ما تربى ونشأ عليه إرضاءً لفاتنته، كالتحرر في الملابس بداعي عدم الانغلاق والرجعية،  وأن الجميلات فقط  صُنعت من أجلهن الموضة وتفانين الجمال المتنوعة كما تُحدثه دومًا بتلك الكلمات البائسة مستغلة مُخدر الجمال وفتنة الشهوة الحمقاء الحاكمة على كل أركانه وحياته، حياته التي توقفت حركتها الا عن السعي وراء الظفر بجمال فاتنته الخداع.

أخذته أمواج نحو الغرق، مضى في طريقه كالمسحور ضاربًا بنصح الناصحين عرض الحائط، لا يقيم وزنًا سوى لرغبته الآنيَّه الطائشة..مرت الأيام وتحقق له ما تمنى، وظفر بفاتنته البراقة، ذلك الانتصار الهش المبني على سعادة لحظات لا حياة عمر بتقلباتها بين الحلو والمر.

تجلى الفرق الفكري من حيث النشأة والعادات بينهما، وإن تقلص من حيث الثراء..إلا أن تلك الفوراق في صميم العلاقة، وسيأتي الصدام بسببها لا محالة.. لا محالة.

كعادة الدنيا وإنسانزمية الإنسان بها، تنكشف الغشاوة بصدمة الحقيقة بعد الوصول والتملك. ذلك ما وقع فيه الشاب المفتون مع مرور النشوة الأولى وهدوء صخب الجمال وفتنته، تحولت وتبدلت حياته حين أفاق من غفوته متأخرًا وقد رأى سبب عذابه اليوم هو نفسه سبب عذاباته الأمس، بالأمس كان جمال الجسد كل المنى، واليوم صار الجمال ذاته وحده بدون الروح هو كل الغربة والفقدان .

أفاق الشاب المفتون بسبب أزمة العزوف عن الإنجاب بداعي الجمال..عجيب حال الإنسان في هذه الدنيا التى تستحق دونيتيها، يِغُطُ فى غيبوبة فتنته لغرض ألحَّ عليه، ويستفيق منها لأجل غرضٍ آخر.فهو ماضٌ فيها متسندًا على حاجته الفانية، ولا تهدأ له حاجة قط ولا يزهد في أغراضه ولا سبيل للانتهاء من إعيائها..فالغرضُ مرضُ !!

بجوار العزوف عن الإنجاب بداعي الجمال، كان الإسراف الشديد للحفاظ على الجمال، و الإهمال في شئون الحياة و شئونها الخاصة في سبيل الإهتمام بالجمال، وعندما ذاق طعم الجمال وأفاق من سُباته، بحث حوله عن حياة وسطية تعود ونشأ عليها، حيث لا غلو في التحرر ولا تشدد في المحافظة، كيفما وجد والدته وكامل أسرته منذ الصغر، بحث فلم يجد ما يعيد له حياته الاولى. 

أصبحت الحياة جحيمًا.صار مثل الشبح،أو كالذي غيَّر جلده فلا يعرف من هو، فقط حارسًا لجمال امرأة أودت بحياته إلى التهلكة،  ولم يَبْقَ له إلا تحديد مصيره، إما الجنون وإما الإنتفاضة على فاتنته وفتنته معًا!

————-

* "المفتون"..من المجموعة القصصية "إنسانِزم".

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 4348 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.