الإثنين , 6 مايو 2024
حرب أكتوبر

(الأستاذ أكتوبر) … قصة قصيرة بقلم د. محمد محيي الدين أبو بيه

= 2361

ماء القناة ينساب رقراقا يلاطم بموجه الهادئ جنبات المركب الذي يحملني إلى ضفاف الشاطئ المقابل وأنا سعيد تملؤني نشوة المنتصر

أخذت دفقات ذكريات الماضي التي لم أحضرها بنفسي ولكن عشتها وتخيلتها كما حكاها لي أستاذي العزيز (الأستاذ سلامة) الذي ملأ أذني انا وزملائي بالمدرسة بها فقد خاض حرب أكتوبر..

دائماً بكل حصصه وهو المتفاني في عمله المخلص لتلاميذه وأميناً عليهم كما كان يردد بعدما ينتهي من شرحه يدخل بنا عالم البطولات وأسراره ودهاليز الخنادق التي مرت عليه أيام وهو كامن بها كالليث الذي ينتظر فريسته ..
.
أرى عينيه وقد التمعت وكأنه ذهب إلى عالم آخر…يتحدث وينادي على أشخاص لا نراهم؛ فقط هو الذي يراهم ويتشخصون له..لا يرتد مرة أخرى لنا ولحاضرنا إلا عندما يدوي جرس الحصة معلنا إنتهائها
عندما ألححت عليه بأن يرسم لنا ملامح زملائه الذين لا يفارقون خياله؛شرع والإبتسامة تزين ثغره :

( عسران) ضابط الصف الذي تطوع بالجيش ليأخذ بثأر أخيه الذي أستشهد بحرب ٤٨ وبعدما دخل المعترك وذاق مرارة نكسة ٦٧ زادت حميته وصار لا يشعر بأي شئ ويقسم أنه لن يترك وحدته بالجيش حتى يرجع الأعداء صاغرين مُنكسي الرؤوس ويذيقهم الهوان لذا كان الصمت رفيقه والتدريب اليومي سيرته التي لا يحيد عندها ؛ فكان لا يبتسم ولا يعجبه أن يجدنا في راحة ووداعة؛ صوته يخترق الأرض صاعداً أرجاء السموات ( شد نفسك يا عسكري…العدو قدامك وشرفك خلفك….)

( وائل) دخل حياة غير التي كان يعيشها فهو عازف جيتار وممثل وكان أمله ألاّ يُقبل بالجيش حتى يستطيع السفر إلى أوربا …
ذاق المرار ليس من أعداء الوطن لكن من الشاويش عسران الذي كان يريده أن يشتد عوده ويترك أيام الدلال بالمدنية وهناء المعيشة الرخوة وسط آلاته الموسيقية وخشبة المسرح؛ فهنا آلات جديدة شديدة القوام ورمال وصخور تحتاج عافية…
مرت به تلكم الأيام لنراه شخصا آخر غير الذي أتى بالبداية…يدب على الأرض دبيبا ثابت الأقدام وسلاحه لا يخطأ إصابة هدفه

( الشيخ صلاح)..إمامنا بالصلاة وخطيب أيام الجمع الذي يلهب مشاعرنا بأحاديثه عن فضل الجهاد ومنزلة الشهيد مما يجعلنا نود لو تصدر الأوامر تواً بالحرب وهذا ما حدث في العاشر من رمضان وكنا كلنا صائمين حتى ( ميخائيل وميلاد) زميلانا بالوحدة رغم أنهما غير مطالبين بذلك…

حملنا زورق وشق بنا مياه القناة وكأنها ( يم) سيدنا( موسى) …
أصوات المدافع والرشاشات واختراق طائراتنا سماء سيناء…كل ذلك من حولنا ونتوقع أن تخترق إحدى رصاصات العدو صدورنا و هذا ما كنا نتمناه و ظفر بها ( وائل) مبتسماً راضياً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة قائلاً..( أرى الملائكة تنتظركم هناك لاهجةً الله أكبر الله أكبر) وأغمض عينيه فأخذت سلاحه أقاتل به مع سلاحي

شرعنا بالصياح
(الله أكبر…الله أكبر)
الجسور تبنى على المياه والدبابات تمر عليها..واقتربنا من حصنهم المانع ( خط بارليف)..

داسته أقدامنا وغرسنا علمنا فيه..لم يوقفنا (نبالمهم) ولا صواعقهم ولا أسطورتهم المزعومة بأن هناك جحيم خلف حصنهم سيتلظى فيه من يفكر بالإقتحام

وأنا سارح مع أصوات الطائرات والقنابل والصواعق في حكايات أستاذي ( سلامة) ..اخترق أجواءي صوت الموبايل الذي أخفيه بين طيات ملابسي حيث أنه ممنوع أصطحابه عند الذهاب للجيش

أخي سامي كان على الطرف الآخر..يخبرني أن النقيب( أحمد سلامة) أستشهد في هجوم إرهابي تصدى له مع جنوده بأحد الأكمنة بسيناء

النقيب أحمد هو أصغر أبناء الأستاذ سلامة ،فيالا غرابة الأقدار الأستاذ سلامة تمنى الشهادة فنالها ابنه في نفس الأرض المباركة التي تشربت بدمائهما.

شاهد أيضاً

وفاء أنور تكتب: حكاية العم “رجب”

عدد المشاهدات = 9699 أبطأت خطواتنا وهدأت من سرعتها اضطرارًا، اضطربت حركة أقدامنا المثقلة متأثرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.