الإثنين , 29 أبريل 2024

“أربع وعشرون ساعة حياة”.. قصة قصيرة بقلم مريم عبدالرحيم

= 2828

أنا فتاة أخذها تيارُ الحياةِ لأقصاها ولم تنتبه، ظَلت تُكابر طوال عمرها في اللاشيء، كانت على علمٍ تامٍ أنها ترى الحياة من زاوية مَعدومة أو تكادُ ومع ذلك لم تحاول أن تتحرر من منظورها، ظلت مَحصورة في تلك الزاوية حتى أصبحت تتشكل بطباعها الباردة وألوانها الرمادية.

انحازت للإجابات الاعتيادية المدون مثلها بالآلاف على شبكات الإنترنت، انحازت للبالطو الأسود الذي يليق بجميع الملابس ولجميع المناسبات، ذاته في قاعات الأفراح وفي المقابر.
انحازت للألوان الداكنة بحُجة إنها “شيك” ولا تُظهر عيوب الجسد، وأن أغلب ملابس الشتاء ألوانها داكنة وأنها فقط تواكب العادي والمعتاد عليه، وليس لديها وقت لكي تتابع صيحات الألوان في كل موسم، أو أن تستمع لرأي البائعة في أن اللون البُحلقي أخر صيحة.

ليس لديها وقت بأن تجرب حتى البلوفر الأصفر ذا الرقبة العالية الذي ابتاعته في مرة من أجل هدية عيد ميلاد صديقتها التي ليس لديها وقت بأن تُقابلها منذ سنوات فأصبح في خِزانتها للما لا نهاية.

والغريب أنها إلي الآن لا تعلم أين يذهب وقتها والإجابة يا عزيزتي في أنه يذهب مع ملايين “ليس لديّ وقت”

أما من جهة العمل فلا يوجد عليّ حرج، فقط بعض التحذيرات الخفيفة من المدير في إنني إذا لم انتبه لمواعيدي المُتضاربة سوف يُقيلني عن العمل.

أما عن وجود حبيبٍ، فأعتقد إجابتي ستكون مُستنتجة.. ليس لديّ وقت، والصراحة أن في هذا الشأن لم تستحن الفرصة بعد لكي أجادُل فيه فلم يطرق بابي أحدهم إلي الآن، ألهذه الدرجة أنا شخصية مُستنتجة للجميع؟!

لا أحب أن أفكر في إجابة لهذا السؤال فلا توجد لديّ بدائل لشخصيتي ولا يوجد قرينًا لي اتخذه كقدوة، هذه هي نسختي الوحيدة المتاحة وشكرًا لمن تقبلها ولمن لا يتقبلها.

والآن فاتتني محطتي وتأخرت عن العمل كالعادة، لأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يستلمني المدير على فوات ميعاد البصمة، الساعة ثمانية ونصف، نصف ساعة إساءة مقابل نصف ساعة تأخيرٍ.
والغريب إنني أصبحت لا اتأثر بكلماته أبدًا، لكنَّه كان في النسخة الأسوأ له اليوم.
وبكل سلاسة وبابتسامة سخيفة قال لي “خدي النهاردة اجازة شكلك تعبانة ومش عايزين ده يأثر على شغلك”
آهٍ تحذيراته تقتربُ من الحقيقةِ أو تكادُ، غادرتُ وأنا شبه متأكدة أن قريبًا سأودع عملي، وشعرت أنه يومٌ مُناسبٌ للبكاء لمن في حالتي، بدأت تمتلئ عيناي بالدموع لكنها لا تظفرُ بحُرية الخروج مثلي، فسَبقتها أكثر القطرات حريةً «قطرات المطر»، نظرت للسماء في حيرةٍ وضعفٍ، وفاضت دموعي، فأدركت أنه حان دوري في الفيضان وفي التحرر من الأغلالِ والقيود الرمادية الداكنة، لم أجد نفسي سوى إنني أنظر للساعة كانت ثمانية وأربعين دقيقة مُعلنة فرمانًا بعيدًا عن عاداتي وتقاليدي الرمادية بإعطاء نفسي أربعة وعشرين ساعة حياة، كيف سأقضيهم؟
لا أعرف، لن أفكر سأتصرف كما يَحلو للحظة أن تكون.
اقتلعتُ حذائي أريد أن أكون حافية القدمين الآن أريد أن أرقص تحت المطر وأغني “اشتيها اشتيها“ لن انتبه لمن سيُحدق بي أو من يَدعي بأنني مجنونة.
إن كان الجنون معناه أن يحيا الإنسان فلنصبحُ مجانين.
الوقوف تحت المطر بقدمين حافيتين جعلني أشعر بدفءٍ لم أشعر به قط طيلة حياتي، دفءٌ نابع من القلب.
استمرت الشتوية لنصف ساعة، نصف ساعة من دفءٍ وسعادة، والآن حان وقت العودة للمنزل بالترام أبو خمسة جنيه صاحب أغاني فيروز ومحمد فوزي.
“وطير بينا يا قلبي ولا تقوليش السكة منين“
اللعنة على الماضي كم قال نجيب محفوظ، وشكرًا للحاضر كما أقول أنا الآن.
أجد الشوارع ألوانها بارزة وكأنها مطلية حديثًا بألوانٍ ربيعية، حتى منزلي أشعر وكأنه تبدل، هل كانت الحياة حقًا كذلك «زاهية الألوان»؟
أم أنني كنت كفيفة عن الحياة وأبصرتُ الآن.
المهم إنني هنا الآن.
ينتظرني البلوفر الأصفر وسط الخِزانة المُعبئة بالرماديات، تلك الإشارة الوحيدة أن هذا حقًا منزلي.
بعد حمامٍ ساخنٍ ارتديتُ البلوفر الأصفر بكل لهفةٍ، لو كنت أعلم بأنه مريحًا لهذه الدرجة ما كنت تركته لأعوامٍ محبوسًا في تلك الخِزانة.
التقتُ قبعة زرقاء من على المكتب كنت أظن لأعوامٍ أنها مجرد ديكور، والآن حان وقت «الفسحة».
أعلم أن نصف مرتبي أو أكثر سيتبخر اليوم لكن حقًا لا أهتم، لن أهتم من الآن إلا بشخصٍ واحد هو «أنا».
اليوم إجازة من الميكروباص، إنه دور الدراجة.
تذكرة شاطئ خاص من أجل الركوض أمام البحر، وهل يوجد خطأ؟ هيا يا فتاة.
ومركب في وسط البحر من أجل الصيد.. يا سلام.
و«ملاهي» تذكرة لكل الألعاب.. حان وقت الصياح.
تمر الساعات بعفوية منذ ولادتي الجديدة في هذه الحياة البمبي على حس سعاد حسني، أشعر وكأنَّي انغمستُ في الجنة كانغماس البندق في شلالات الشوكولاتة، أشعر وكأنَّ دقات قلبي تنبض للمرة الأولى.

لازالت الأحلام تتحقق، ولازالت الأربعة وعشرون ساعة مُفعلة ما بين كل ما هو غير معتاد، كل شيء أصبح بطعمٍ ساحر بعدما فعلته بِحُب، حقًا كل شيء حتى أبسطها من تمشيّ على الكورنيش أو ركوب الترام الزرقاء.

والآن أنا على سطح منزل أحدهم في محطة الرمل الساعة السادسة صباحًا، اتأمل بِحُب شروق أربعة وعشرين ساعة حياة أخرين، لا أبكي يومي أو احتضر ببطء كحالي قبل يومٍ، لا أنحاز لكل ما هو عادي بمجرد كونه الأسهل، أنحاز بأن أحيا الحياة كما هي بدرجات ألوانها كلها وليست الداكنة فقط، لا أبالي هل سأُقال عن العمل أم لا؟
فأنا الآن هنا موجودة، أحيا بحُرية.
لن أقف أبكي على الأطلال، أو أشكو للبحر اضطراب خواطري، سأبحر طالمّا لازلتُ أتنفس.

شاهد أيضاً

“إجمع ما بقى من بقاياك”…بقلم نبيلة حسن عبد المقصود

عدد المشاهدات = 903 حين يذهب الشغف في طيّات الفتور. ويستوي الأمران.من قربٍ وبعدٍ… حبٍ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.