الجمعة , 26 أبريل 2024

د.علا المفتي تكتب: فلنثقب الحقيبة..!

= 1952

كان وياما كان، يحكى أنه في سالف الأزمان، كانت هناك طفلة صغيرة، تسير متباطئة منهكة القوى، من ثقل ما تحمله. حيث كانت تضع على ظهرها الصغير، جوالا كبيرا مكتظا بالأشياء. وكانت تعاني طوال الطريق، من هذا العبء، الذي أرهق جسدها النحيل. فمرة تجر الجوال على الأرض. ومرة أخرى تحمله بين ذراعيها. ومرة ثالثة تضعه على ظهرها، وتحاول أن تكمل المسير.

لكنها في كل مرة، كانت تسقط، وينفتح الجوال، وتتناثر منه الأشياء. فتجلس الطفلة في وسط الطريق، باكية منتحبة. ثم تستجمع نفسها، وتستعيد رباطة جأشها، وتلملم أشياءها وتستأنف الطريق. واستمر الحال بها هكذا، يوما بعد يوم. وكانت الأشياء في جوالها الكبير، تتزايد وتكثر وتتنوع. إلى أن خذلتها قدماها الصغيرتان ذات يوم، وتمردتا عليها، وقررت أن تسقطها هي وجوالها اللعين. فانكبت الطفلة على وجهها في عرض الطريق، وتمزق جوالها تماما، وتناثرت محتوياته في شتى الأنحاء، محدثة دويا وجلبة. مما نبه إحدى السيدات العجائز، التي كانت تعبر الطريق.

اقتربت العجوز على مهل من الطفلة متسائلة، كيف يمكنها مساعدتها؟! لكن الطفلة لم تلقِ للعجوز بالا. فقد كانت منهمكة في بكاء مرير، ناظرة إلى أشيائها المتناثرة المحطمة، من حولها في أسى. لكن السيدة العجوز كررت المحاولة، وبدأت في تهدئة الطفلة. وكفكفت دموعها. وربتت على ظهرها في حنو. وبعد أن بدأت الطفلة تهدأ وتطمئن نفسها، قالت لها السيدة: ما هذه الأشياء المتناثرة من حولك؟ ولماذا تحمليها جميعا، في جوال واحد لم يتسع لها؟ ولماذا لم تستعيني بمن يساعدك في حملها؟!

أجابتها الصغيرة: إنها أشيائي القديمة. بعضها تحطم، ولم أستطع إصلاحه. وخشيت أن أخبر والداي فيعاقباني. وبعضها أشياء كانت لي في الماضي، ولم تعد تصلح لي الآن. لكني أحبها واتمسك بها بالرغم من أنها ثقيلة، ويؤلمني حملها. أما الأشياء الباقية، فهي واجباتي التي لم ألتزم بأدائها. وهي مليئة بالأخطاء. وقد خفت أن تعاقبني معلمتي بسببها، فخبأتها في هذا الجوال.

نظرت السيدة العجوز للطفلة في شفقة قائلة: يا صغيرتي، إن هذا الجوال وما يحمله من أهوال مرعبة تتصورينها في خيالك، يمكن التخلص منه في الحال.

اندهشت الصغيرة من كلمات السيدة وقالت: وكيف يمكنني ذلك؟! مستحيل.

ردت العجوز في ثقة: لقد راكمت ذكرياتك المؤلمة، ومشاكلك الصغيرة، دون أن تبحثي لها عن حلول. فقد جَبُنتِ عن المواجهة، فازدادت مشاكلك الصغيرة، وأصبحت جبالا كبيرة، لا تستطيعين حملها. ولا تستطيعين أن تعيشي سعيدة، وأنت تحملينها. كان يجب عليك أن تتحملي نتائج أخطاءك الصغيرة. وتحاولي مواجهة كل مشكلاتك أولا بأول، مستعينة بمن هم أكثر منكِ خبرة. والآن اجمعي أشياءك من جديد، وافرزيها، وابدأي بحل المشكلات الصغيرة، ثم الكبيرة. وحينها لن تحتاجي أبدا لجوال تحملينه وينهك كاهلك.

إن الكثير منا أثناء مسيرته في الحياة، يسلك مثل تلك الطفلة. فيحمل حقيبة كبيرة من الهموم، يشق عليه حملها. حيث نحتفظ بذكرياتنا المضنية، ونعيش في أحزان الماضي. ونلجأ إلى دفن المشكلات حية، بدلا من مواجهتها، وقتلها بالطرق السليمة، ثم ندفنها في أمان إلى الأبد. لذلك تتفاقم المشكلات، بدلا من أن تنتهي. فعلاج المشكلة فور حدوثها، والتحلي بالشجاعة في مواجهتها، لا يكلفنا نفس الجهد والألم، الذي يصيبنا، إذا تركناها تتفاقم وتكبر، وتتعقد مع الأيام.

وهناك من المشكلات الصغيرة، ما يجب علينا أن نسقطها، من حقيبة الهموم. فبعض المشكلات قد تكون أصلا ليست مشكلة. لكن نحن من نجعلها كذلك، عندما نتعامل مع أمورنا الحياتية بشيء من المبالغة، والتدقيق الزائد عن الحد. مما يولد مشكلات، كان يمكن تلافيها بشيء من التغاضي، والتجاهل والتغافل.

فلنثقب حقيبة الهموم، بثقوب متعددة. ولنصلح ما بها من أشياء، فور وجودها في الحقيبة. ولنجعل من تلك الحقيبة، وعاءَ للسعادة لا للأحزان.

إن نفوسنا كالحقائب، مهما اتسعت فإنها ضيقة. فعلينا ألا نحشوها حد الامتلاء. فحتما ستنفجر إن فعلنا. وتذكروا أن لا مشكلة بلا حل. وأن أفضل طرق علاج الهموم، هي مواجهتها لا الهروب منها. فحقائب النفوس المكتظة بالهموم، هي تربة خصبة، لنمو أمراض القلق والاكتئاب، وغيرها من الأمراض النفسية.

وأخيرا، علينا أن نكتب على حقائب الهموم عبارة “إن مع العسر يسرا”.

——————

* مدرس أدب وثقافة الطفل بكلية البنات – جامعة عين شمس

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 4449 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.