السبت , 27 أبريل 2024

سلطنة عمان بين المتوت والسمفونية ..!

= 1347

بقلم: قاسم حول *

كنا ننتظر “ولد البحر” أن يأتوا من سلطنة عمان، وهم يلفون وسطهم بالفوطة العمانية ويعتمرون على رؤوسهم العمامة العمانية الأنيقة والزاهية الألوان وهم يحملون على ظهورهم أكياساً فيها سمك صغير كأنه ولد تواً، وقد تم تجفيفه بالشمس على ظهر “اللنج” سفنهم الآتية من عمان، هذا السمك المعبأ بالأكياس يطلقون عليه “المتوت” كان البعض ينقعه بزيت الزيتون ويغمسونه بالخبز العراقي فيمتزج طعم خبز التنور العراقي مع “متوت” عمان المالح! فتتمالح العائلات “أي يتبادلون الخبز والملح” فيحبون بعضهم، وكأنهم يعيشون في بلد واحد، ويحملون جواز سفر واحد!

نشتري منهم هذا السمك المالح المجفف بأشعة الشمس النظيفة، ونبيعهم الشاي والسكر وعلب حليب نستلة!

سلطنة عمان، يأتينا منها “ولد البحر” وفي المساء ومع غروب الشمس وصوب مدينة التنومة حيث فيها تركن الشمس إلى المغيب، ونحن نشعر بالكسل ورطوبة صيف البصرة، نسمع ضربات طبول ولد البحر وأغانيهم الجميلة، وأحيانا نراهم يرقصون على ظهر “اللنج” الخليجي!

أحيانا يجلب العمانيون معهم حلوى نسميها “المسقطية” نسبة إلى مدينة مسقط. وهي حلوى محلية الصنع ننتظرها كي نأكلها مع القشدة العراقية “الكيمر”! ناس طيبون بملابسهم التقليدية يأتون إلى ناس طيبين بملابسهم التقليدية، فتلتقي سمر الوجوه بسمر الوجوه، تلتقي العمامة العمانية والفوطة العمانية بالدشداشة العراقية و”البشت العراقي – العباءة” والعقال العراقي .. لا جوازات سفر ولا تأشيرات دخول .. ولا هم يحزنون، فنحن كمن يعيش في جواز سفر واحد!

تبدلت الأحوال في كلا البلدين .. سلطنة عمان يتناوب على إدارتها الملوك البسطاء ولكنهم الحكماء، فطوروا سلطنتهم وبنوها حجراً على حجر من سفوح جبالها وزرعوا فيها النخيل وأنتجوا العطور النباتية الأنيقة ولم يعودوا بحاجة إلى عطور شانيل ولا إلى دبس العراق الذي كان العمانيون يضربون به الممثل ويطلقون الحكايات عن مذاقه وهم يرددون “يا حلاة بالدبس”!

هذه السلطنة وبقيادة حاكمها السطان قابوس بن سعيد بن تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان، الذي يتجول بالقرى والقصبات ويزور بساتين النخيل. سمعته يوما وهو يحدث الفلاحين قائلا “إن منظر نخلة ذابلة لا يسر النظر”! هذا السلطان أنشأ في حياته أعظم إنجاز حضاري يتمثل بتأسيس “فرقة السمفونية الوطنية العمانية” وهي فرقة ترتبط بشخصه مباشرة وهو راعيها. تتكون الفرقة من شابات وشباب عمانيين بالملابس التقليدية الجميلة، وهم يعزفون السمفونيات الكلاسيكية وأيضا السمفونيات الحديثة، أحرص على متابعتها في آخر الليل كي أنام سعيداً دونما كوابيس .. أسمع الألحان المنسجمة والوجوه المنسجمة الجميلة والكاميرات وأجهزة البث تنقل لنا التكوين ضمن إنارة هادئة وضمن نغمات صوتية تسر النظر وتسر السمع وتسر الوطن!

لم يتعارك سلطان عمان مع جيرانه ولم يتعارك مع خصومه بل أنه أكرم خصومه وإعتذروا منه وهم الآن يساهمون في بناء سلطنة عمان بل ويحرصون على بنائها في عالم الحداثة والمدنية حتى تكاد سلطنة عمان أن تكون رمزاً لمدن السلام في العالم.

نحن الذين كنا نبيع الشاي وحليب النستلة لأهل عمان الذين نستورد منهم سمك “المتوت” وحلاوة مسقط ونبيعهم دبس التمور وهم يرددون في أسفارهم “يا حلاة البدبس” صرنا نستورد الماء من الجيران ونحن في بلاد ما بين النهرين، ونستورد اللبن الفاسد من الجيران ونستورد حتى التمر من الجيران ونستورد الدبس وصرنا نردد “يا حلاة البدبس” وأصبحت عمان منتجة لأجمل العطور في أجمل القناني يتعطر بها أعضاء الفرقة السمفونية .. وصرنا نحن نحرم سماع الموسيقى الكلاسيكية وقيمتها في الهارموني والإنسجام .. ومعنى كلمة “سمفوني” باللغة الأغريقية تعني الإتفاق والإنسجام .. تعني الهارموني! هكذا تطورت سلطنة عمان من خلال الهارموني والإنسجام، بإتجاه التمدن والمدنية، وهكذا رجع العراق من خلال “موسيقى حرام وبوكو حرام” نحو البدائية والبداوة والعشيرة .. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح!

—————-

*سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا.

(نقلا عن جريدة” العالم”)

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: فجوة بين الشباب ورجال الدين

عدد المشاهدات = 5047 منذ فترة طويلة وانا اشعر بوجود فجوة عميقة فى العلاقة بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.