الخميس , 9 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: قابيل وهابيل في “لوس أنجلوس”!

= 1530

Abdul razak Rubaiy


خلال حديثه حول تجارب سينمائيّة في الأفلام القصيرة قدّم المخرج العماني حمد الرئيسي مقطعا لم يتجاوز زمن عرضه دقيقتين ونصف الدقيقة، من فيلم أمريكي طويل اسمه "تصادم" أو "كراش" في سياق شرحه لجماليّات المشهد السينمائي، لقد ظلّ هذا المقطع، يلازمني لساعات طويلة، لما تضمّنه من حالة إنسانيّة، تعبّر عن قضيّة كبرى اختزلها المخرج في بضع لقطات، أعادت إلى ذهني الجريمة الأولى عندما رمى قابيل شقيقه هابيل بحجر، فقتله ليستمرّ تدفق الدم، والصراعات التي مازالت إلى اليوم  بين "الأخوة الأعداء".

وحين سألت الرئيسي عن سبب اختياره لهذا المقطع أجاب "لأنه صيغ وكأنّه فيلم قصير، تكاملت به جميع عناصر الفيلم القصير، لذا أمكن اقتطاعه لعرضه بشكل منفصل" وهو من إخراج "بول هاجيز" وبطولة ساندرا بولوك ودون تشيدل ومات ديلون، وجينيفر إسبوسيتو ، وتمّ إنتاجه  عام 2004، وحصل على ثلاث جوائز أكاديمية عام 2005، من بينها جائزة أوسكار لأفضل فيلم.

 وقبل أن أتحدّث عن المقطع لابدّ من الإشارة أنّ الفيلم يتحدّث عن (عنصرية المجتمع الأمريكي)، و(الصراعات الدائرة بين المهاجرين هناك)، وتدور أحداثه تحديدا في " لوس انجلوس "، وقال عنه الناقد الفني جمال الخنوسي:"لا يمكن للمشاهد أن يترك قاعة السينما دون أن يشعر بالأثر البليغ الذي يتركه الفيلم في نفسه أو أسئلة مختلفة يبحث لها عن أجوبة".

والخط الذي يتضمّنه المقطع الذي اختاره الرئيسي تسبقه مشاهد حول محلّ يعود لإيراني مكسور الباب، فينادي عاملا مكسيكيّا لإصلاحه  لكن المكسيكي يطلب مبلغا أكبر، مما يتحمّله الإيراني، فلم يتفقا، ويحدث أن يأتي لصوص سرقوا المحل، فظن إن المكسيكي هو سارق المحل، فجاء ليقتله، وهذه لقطات تأسيسية للمقطع الذي يبدأ بجلوس رجل في سيارته أمام بيت، بانتظار شيء ما، بعد ثوان تصل سيارة، ينزل منها المكسيكي، تظهر لقطة من داخل البيت، لأمّ مع ابنتها الطفلة التي تنظر من النافذة، وتظهر شجرة الكريسماس، في إشارة إلى استعداد الأسرة للاحتفاء بأعياد الميلاد، حين تسمع الطفلة صوت السيارة تفتح النافذة ،وتبلغ امّها إن الأب قد وصل، وتظل تتابعه ،فترى الرجل يتجه إلى والدها، مهددا إيّاه، بمسدس.

فيسأله: اعطني المبلغ الذي سرقته، فيجيبه: لم أسرق شيئا ، لكنه لم يقتنع، فيدخل يده في جيبه ويخرج ورقة من فئة خمسين دولارا، يسلمه له، فيرميها، ويشتد الجدل بينهما، وهنا تشعر الطفلة بالخطر، فتبلغ أمها وتفتح الباب وتركض لتحمي والدهان تنبهها أمها إلى خطورة ذلك، لكنّ الطفلة تطمئن أمّها أنها ترتدي قلادة الحماية التي أهداها لها والدها، قائلة: القلادة ستحميني من الرصاص، وبسرعة فتحت الباب، واتجهت لتحضن والدها الذي حذرها من الاقتراب لكنها لم تصغِ لتحذيراته فاحتضنها، وهنا انطلق صوت رصاصة، خرجت الأم مولولة.

وظلت الكاميرا تنتقل بين وجه الأب المفزوع على ابنته، وزوجته التي تبكي والطفلة التي تحتضن والدها بقوة، ووجه القاتل الذي يرى نتائج ما اقترفت يداه، ويستمر المشهد المصحوب بموسيقى صاخبة، وأصوات بكاء، وكلّ الذي يعرفه المشاهد أن جريمة حصلت دون أن يدري من الضحيّة، وشيئا فشيئا يخفت صوت الموسيقى، وتنطق الطفلة بكلمة، فيطمئن الأب أنها بخير ثم يكشف عن ظهرها فلا يرى أثرا للرصاصة، فتطمئنه إنها بخير ، ويبقى المهاجم مذهولا فيما يتحرك الأب نحو البيت ليغلق الباب خلفه ثم تطل الكاميرا من الأعلى لتراقب المهاجم الذي ظلّ مذهولا، والحقيقة فإن الرصاصة التي أطلقها كانت (طلقة صوتية) فحسب، وهذا ما يؤكده مشهد سابق إذ إن ابنة التاجر الإيراني اشترت المسدس من محل، وطلبت من البائع نوعا من الرصاص اختارته مصادفةً لأنها ليست خبيرة بالأسلحة والذخائر، فأعطاها بائع الأسلحة طلبها ظانا أنها تريد نوعا من (الطلقات الصوتية) .

إنّ الذي لفت انتباهي في المقطع لغته السينمائيّة العالية التي اختزلت الكثير مما يمكن أن يقال في قضيّة كبرى هي قضيّة قتل الإنسان الذي هو "بناء الله " كما جاء في الأثر" ملعون من هدمه"، وقد اتّفقت  الأديان السماويّة كلّها على تحريم قتل الأنسان، وجعلت مصير القاتل النار ، قتل إنسان هو تهديم لمشروع بشري، وتهديم أسرة، وإزهاق نفس بريئة، وإلحاق الضرر بالمجتمع، قال تعالى في الآية33 من سورة الأسراء" وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا".

لقد برع المخرج في إدانة القتلة من خلال إظهار بشاعة تصرفاتهم، وقد ظهرت هذه الإدانة من خلال إظهار المهاجم بمظهر الشرّير القاسي الملامح، المهزوم، وقد ظهر هذا في المشهد الأخير من المقطع الذي جعل الكاميرا تصوّره من أعلى ليبدو ضئيلا من وجهة نظر عليا، جامدا من الخارج بينما يدخل الأب المكسيكي إلى بيته محتضنا طفلته في البيت، لتواصل حياتها، محتفلة بأعياد الكريسماس في إشارة ذكيّة إلى التعاليم التي جاء بها السيد المسيح وتعاليمه التي دعت إلى المحبة، ونهت عن البغضاء .

لقد جاء المقطع ليلقي الضوء على واحدة من الحالات السلبيّة التي ناقشها الفيلم ،فالجريمة التي كادت أن تحصل سببها إتّهام مبني على الظنّ ،وليس اليقين، وخلال لحظة انفعال، وغضب، كما هو يحدث في معظم الجرائم التي تقع، ورغم قصر المقطع إلّا إنّه قال الكثير ، فقد كان أشبه ببيت القصيد، أو لقمة الصيّاد، وقد اقتنصه  "الرئيسي" من الفيلم لأنّه يحمل الرسالة التي يريد أن يوصلها المخرج إلى الجمهور، من خلال " الاستقراء الناقص" كما يسمّيه علماء المنطق، تمييزا له عن الاستقراء التام وهو تتبع بعض جزئيات الكلي المطلوب معرفة حكمه، للخروج بحكم عام، فتذوق لقمة من الطبق تكفي لإعطاء حكم كامل على مذاق الوجبة بأكملها، فهذا المقطع يبثّ الكثير من الرسائل عبر قليل من الومضات الضوئيّة التي تبقى محفورة  في ذاكرة المشاهد.
————-
كاتب وشاعر عراقي مقيم بسلطنة عمان.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 2877 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.