الخميس , 9 مايو 2024

محمد سعيد محفوظ يكتب عن: أيام الأتوبيس والبيات ع السلم!

= 1693

Moh Said Mahfouz


بمجرد أن انتهت امتحانات عامي الأخير في جامعة الإسكندرية عام ١٩٩٤، توجهت للقاهرة في اليوم التالي.. لم يكن قد مضى على رحيل والدي سوى عامين، لذا استحيت أن أطلب من أمي مليماً واحداً وأنا أبدأ هذه الرحلة.. عملت مصححاً لغوياً في دار لنشر الكتب التراثية بشارع القصر العيني، وكنت أتقاضى جنيهاً واحداً في الساعة.. وكان عليّ أن أعمل ست ساعات يومياً لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، بينما كنت أتدرب في "أخبار اليوم" لثلاثة أيام أخرى، وأعود للإسكندرية يوم الجمعة، على متن القطار "القشاش"، الذي لم تكن تذكرته تزيد عن جنيهين.

كنت أفطر عادة من محل فول وطعمية في شارع التوفيقية بتكلفة لا تزيد عن جنيه واحد، وأتغدى كشري متبوعاً بطبق أرز بلبن بجنيهين ونصف من الملك الصالح، وفي اليوم التالي أعكس الوجبتين حتى لا أشعر بالملل!! ولم أكن أتناول العشاء على الإطلاق.

استضافني أصدقاء سكندريون في الاستراحة التي وفرتها لهم شركتهم في الدقي.. لكن كثيراً ما كنت أعود من عملي متأخراً فلا يسمعون طرقاتي على الباب.. وكنت أضطر حينها للمبيت في مسجد مجاور، أو الانتظار في بئر السلم حتى الصباح.

حين التحقت بجريدة الأهرام، انتعش وضعي المالي، فصرت أتقاضى ١٣٥ جنيه مكافأة شهرية ثابتة (بعد خصم ١٥ جنيهاً ضرائب).. وحين تم تعييني زاد الراتب إلى 300 جنيه تقريباً.. فاستأجرت شقة في المنيل بمائتي جنيه شهرياً.. وصرت قادراً على تنويع طعامي، وركوب الميكروباص بدلاً من الأتوبيس ذي العشرة قروش!

حين دخل الهاتف المحمول مصر، كنت قد ادخرت ما سمح لي باقتنائه، ومن جهازي الإيريكسون العتيق، انطلق أول رنين هاتف محمول في صالة تحرير الأهرام، وبسببه ثارت شكوك حول ثروتي المفاجئة بين الزملاء!! كذلك استطعت شراء جهاز تليفزيون صغير، ليحل محل جهاز مستعار من أحد الأصدقاء، وغسالة ملابس صغيرة، أنهت للأبد مرحلة وضع "طشت" الغسيل على البوتاجاز.

كانت حياة أقل من متواضعة، لم تعلم أمي بتفاصيلها إلا بعد عشر سنوات، ونحن نجلس في مطعم فاخر بالإمارات، خلال عملي بقناة أبو ظبي.. فلم تتمالك نفسها من البكاء.

لكن ابتسامة الثقة والتفاؤل لم تكن تفارقني في خضم هذه الحياة البائسة.. هل يعلم طلابي الأعزاء لماذا؟ لأنني كنت على يقين من أنني سأحقق أحلامي يوماً، وحينها سأشعر بالفخر وأنا أسرد مثل هذه الذكريات على زميل يستهل المشوار، ويعاني من البدايات الصعبة.. كنت أثق في أن حبي للمهنة، وإيماني برسالتها، سيكفلان لي الوصول إلى هدفي، دون تفريط في القيم النبيلة التي تعلمتها من أهلي وأساتذتي، ودون تردد في استكمال الطريق للنهاية.

هذه السطور مهداة لكل من تفصله عن بداية رحلته التاريخية خطوة، ولديه بعض الشك في أنه سيصل يوماً ما لغايته.!

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 3247 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.