السبت , 11 مايو 2024

كريم علي يكتب: سكرات الغروب(قصة قصيرة)

= 2122

ليلة شتوية مفعمة بالتحديق في اللاشئ، ثمة ظاهرة غريبة تُنذر بالإرتباك؛ حلول الصهدِ على ليل الشتاء!. لم تحدث من قبل وقد لا تُعاد ثانية.. تبدل المناخ في جسد النحيف، عيناه جاحظتان كالطفل التائه، بل هو كذلك، وعقارب الساعة لا ترحم تلدغه بهرولتها نحو الثانية عشر ليلاً، كان قد انفصل عن حاضره الحسي من قبلها بثلاث ساعات يأبى تصديق ما هو مقبلٌ عليه، يتمسك بلحظته الآنيه عن قلب مفتور لا يُصرح وعين عصية على الدمع فى رحاب الأحبة..

ود لو يُهشم ساعة الحائط المنذرة بإنتصاف ليلته الأخيرة بين جفون وطنه، بضع ساعات وتنقله ذات الجناحين المسربلة بالوجع إلى أرضٍ اخرى وبلد آخر وأُناس آخرين وغربة جُبلت على التفرقة والقسوة والإرتواء بماء نفسى نفسى حتى نهشها الظمأ !

أطلق أعيرة وحدته بيده قبل يد غربته المرتبقة، انزوى في غرفته يلملم خواطره المرتبكة، أغلق باب الغرفة الجرار وخشى إضاءة نورها كيلا يطلع على شواظ روحه المُفرطة فتحرقه ثم تحتضر شجاعته العليلة .. كونها عليلة لا يعنى موتها.

ظلمة الغرفة هيأت من أمره بعض السكون، انتصف الليل ولم ترض جفونه النوم تتشبس بمزيد من الإفاقة نزلت عليه بالتيه والتحديق. جلس على طرف السرير ملتحماً بالفراغ تسرى فى اذنه نغمة أشجنته وهو أرض خصبة للشجن في ساعته تلك.. نهض من جلسته السقيمة وأدارمسجل صغير موصولاً بسماعتين دسهما فى أذنيه وانطلق يسمع :

لما تقوم الصبح وذكرياتك ميح
ما انتش عارف نايم جارح ولا جريح
حب وذكرى امبارح بكرة كل ده صفر
هتلاقى نفسك تايه زى القشة فى ريح
ولا باينة مين صاحب مين وفلان بوش ولا بوشين
لو بالنسيان احنا عيانين اكيد احسن لنا
العمر سكينته مش ناعمة والكل شايف لكن أعمى
دول قالوا على النسيان نعمة من مليون سنة

ظلت الكلمات الموجعات تضرب باطنه المحتدم، قوض الظلام سكناته، تخدر به وتحرك في أرجاء الغرفة يتلمس أركانها كى تثبت في وجدانه المدلهم.. راح يتلمس مكتبته العالية والأغنية فى أذنه تدك حصون قلبه، يتصفح كتب الدراسة القديمة فيراها رغم الظُلمة، طفا براحتِه المرتعشة على صفحاتها بتحنان مُفارِق ثم تأمل مكتبه الأثير وتفحص ذكرياته الوفيرة معه عن شجن ورثاء، قصاقيص الورق التي اعتاد دسها تحت البلورة بعدما أفرغ فوق بياضها حبر أفراحه وأطراحه. سهرياته الدراسية في حضنه المبعثر بالأوراق، أسراره التي تسرسبت إلى مسامعه الصماء فوعيها بالألفة والعشرة.

أغمض عينيه للحظات فعلا بنيان الظلام فوقه حتى غاصت فيه الرهبة ودارت عجلة العصف فوق ليلته .. المدهش أنه لم يذرف دمعة واحدة، كتمانٌ مريب للدموع كأنها قُتلت في الأحداق.

مخالطة الإقدام بالاستسلام ندا عنها بكاء جاف أو لربما تصاعدت أبخرته وقد تأجل ارتطامها لحين الإختلاء فتتساقط القطرات عن صفاءٍ واكتواء !

ارتحل مستقلاً الذهول تاركا خلفه قلب حقيقى وأحباء ودعوه بالدموع الغالية. جسده فارغ من كل شئ الا الشرود، تخف أوزاننا حين يتملكنا الإرتباك ونختلج. استحب ترك التفكير في مقبلات خطوته التالية أو بالأحرى لم ينصاع ترف الفكر له فزهده مؤقتاً.. بحلق في شباك الطائرة لا يصدق ما يجرى، أحقاً تعانق السحاب؟! أحقاً تلك النقاط البارزات بالأسفل وطن توعده بالهجر أم هو الذي قسى عليه بالفراق؟! .. تنهد بآسى ثم تهادى برأسه للخلف آملاً في غفوة نعاس عنتته منذ المساء ومازالت !
شاخص البصر مثقل الخطى دبت قدماه فوق عالمه الجديد وغربته المتشحة بالسهولة الظاهرة والصعوبة الباطنة، وجه فاتر لا حياة فيه، لا هو بالحديد المتصلد العنيد ولا الشمع المنصهر المائع، بلاستيكي الطلة. ليت ملامحه تنم عن الندم لكان استراح، الندم موقف، لكن ملامحه بدت أنها متحيرة بين أى موقف يأخذ في ظل مشاعره الهاربة من أوصاله فمضى إلى حيث تشير الأسهم أمامه حتى لفحة نسيم شتوي اختلط بأحاديث ألسنة غريبة عنه تتطاير رذاذ حروفها منحوله .. .
لا نعلم إن كانت أقدارنا تتشبث بنا أم نحن حريصون عليها لحد الإستبقاء، لا أحد يقوى على استبقاء قدره ولوحرص، أعتقد أننا رُمينا في حلبة من الرغبات نُلاكم أقداراً شتى ترنو إليها الأنفس فلا نظفر منها الا نا قد كُتب، والمكتوب لا يُمحى بالإنكار بل يُتجرع بالرضا !
بعد نصف ساعة من الصمت الشارد المتحملق فيما حوله من لافتات وأشجار عالية مترامية على جنبات الطريق، أوشك على النطق أمراً السائق بالعودة إلى المطار وليكن ما يكون فيما بعد، تملكته الشجاعه واستعدت الكلمات للقفز من فوق لسانه فتسبح فى نهر المجهول. بينما هو يشير بيده للرجوع رن هاتف السائق رنة منذرة بخطورة عناد القدر فخمدت شجاعته، وظل السائق يتحدث منشغلاً عن هواجس جليسه حتى وقفت السيارة الفارهة أمام عقار مصفر اللون ثم أشار بيده المشعرة وقال ستسكن هنا .. وهل للغريب سكن أو سكون؟!

الشمس لا تكاد تُرى، السماء صافية والسحب تسرح فى الحضن الشفاف بتلاحم، النسمات تهدهد عليه فيهدأ ولكن سرعان ما تسارعت نبضات قلبه عند الولوج الأول من الباب داكن اللون، استقبلته عيون رقدت الغربة في أحداقها، تتفحصه برأفة، زاغ بصره تماماً، صافحهم بيدٍ من ثلج أًصفر هرب منه الدماء ثم جر حقائبه وربما جروه هم لينزوى في وحدته الجديدة وغرفته المنقسمة ملكيتها مع نفرٍ من الإنس !

داخل الغرفة.. نظرات شاخصات حانقات تجاه الحقائب مع حفنة من حيرة الغريب اغتالت ما تبقى من نهار، فهجم الغروب وما تلاه من ظلام داكن كأنه صُبغ بلون عينيه الشاحبتين، يخطو على الأرض بتريث كأنه لا يود أن يشعرها بوجوده أو ربما يجس نبض الأرض الغريبة قبل انغامسه فيها. ..
تسرسب الوقت من بين يديه سريعا، وجاء ما كان منه يحيد طوال الساعات المنصرمة، الخلود إلى النوم، أن تستسلم رأسه لمخدع خارج وطنه لأول مرة، أن تنسكب على روحه عبير الألفة ليطمئن في غفو..

ألا بذكر الله تطمئن القلوب .. حدث نفسه محفزا نوازعه الإيمانيه لتلقفه، ما أشد حاجته إليها الآن، وجب النوم وإن كان كرهاً لكنه حتمى، تسحب نحو مخدعه الجديد يتحسسه ثم استلقي بوجل، قرأ أذكار المساء والنوم وما تيسر من الذكر الحكيم وهيأ نفسه للنوم محاولاً الاندماج معه لعله يسحبه إلى راحته المؤقته، سمع نبضات قلبه تدق كطبول الحرب فود أن يريحها فأتى بصورة والديه ووضعها على قلبه ثم ضغط براحتهِ عليها آملاً الآلفة حتى سكن واخذه النوم قليلاً ..

قام فزعاً بعد ساعتين من النوم المتقلب. صرخ بعِزم ما لديه من صوت حيث رأى كابوساً، رأى نفسه يسير فوق خيط رفيع ومن تحته بحرٌ من القطع السوداء لا قرار له ووحوش قبيحة الوجوه تستعد للفتك به بمجرد الوقوع وبالفعل انفلتت قدماه فوقع ففزع ! ..

نهض ليتوضأ فتوضأ بالدموع، هاهى تنهمر أخيراً بعد عصيانٍ مقبض، اختلطت الدموع بماء الوضوء، بكى كأن لم يبك من قبل، أفرغت عيناه ما كتمه قلبه منذ ليلته السابقة، كفكف دمعه ووقف بين يدى الله ناشداً الأمل والطمأنينة في ركعتى سكينة ثم جلس صامتاً ينتظر بزوغ فجر حقيقى عكس ذلك الذي طل عليه بعدها بساعات ..
ولنل لقاء مادام لرزق الكلمة بقاء..

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 4433 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.