الخميس , 16 مايو 2024

عبد الرزّاق الربيعي يكتب: الأجساد تتحاور على الخشبة

= 1389

Razak 2

 
للجسد لغة يتحاور من خلالها مع المحيط، وقد تكون أولى المفردات التي تصدر عن الإنسان في الساعات الأولى من ولادته، فينطقها جسده، ليسدّ عجز اللسان، لتوصيل إشارات إلى المحيطين به، لمعرفة احتياجاته، وتكون تلك الإشارات عفويّة، وقد شكّلت مرحلة من مراحل الخطاب بين سائر البشر، وهذا نراه واضحا في القبائل البدائيّة، التي كثيرا ما كانت تعبّر عن ترحيبها بالضيوف عن طريق أداء الرقصات، مستعينة بلغة الجسد، ولكنّ هذه اللغة تطوّرت، وصارت فنّا، يطلق عليه بفن"الحركات الإيحائيّة"، أو "البانتومايم"، الذي عرف طريقه إلى المسرح على أيدي اليونانيّين.

 وتؤكّد د.صديقة لاشين ظهور مصطلح "المايم" في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، ومن الملاحظ أنّ كلمة "مايم" اكتسبت معاني عديدة مع مرور الزمن، ففي بدايتها كانت عبارة عن مسرحيات قصيرة تعرض في الأسواق العامة، وكانت موضوعاتها قائمة علي السخرية من أخطاء شخصيات التاريخ اليوناني، ثم انتقلت الي السخرية من شخصيات المجتمع المعاصر مثل شخصية القاضي، والتاجر، ورجل البوليس".

ويؤكّد الدارسون أنّ جذور" البانتومايم" تعود إلى مصر، عندما كان المحاربون بعد عودتهم من معاركهم يستعينون بممثّلين، ليجسّدوا للفراعنة وقائع تلك المعارك عن طريق الأداء الجسدي، ولغة الجسد  عالميّة ، لا تحتاج إلى ترجمة،

وقبل ظهور الصوت في السينما اعتمد الممثل على جسده في إيصال رسائله، كما فعل "تشارلي شابلن" الذي ناقش موضوعات عديدة من خلال الأداء الصامت.

بالنسبة لنا، نجد أنّ التعبيرات الجسديّة جاءت في تضاعيف الآيات القرآنية، كقوله تعالى"فأقبلت امرأته في صرّة فصكّت وجهها وقالت عجوز عقيم"(29- الذاريات) تعبيرا عن صدمة البشارة، والحمل في الكبر، و"يوم يعضّ الظالم على يديه"(27- الفرقان) تعبيرا عن الندم، والحسرة، وقوله تعالى"فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن"(31-يوسف)دلالة على هيام النفس، ونسيان الجسد ،وقوله"جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم" (7- نوح)، لئلا يسمعوا الدعوة، فجاء القرآن جامعا بين لغة الجسد، والإشارة، واللسان، وهذا مانراه في الشعر العربي كقول عمر بن أبي ربيعة:

وقالت، وعضّت بالبنان، فضحتني    وأنت أمرؤ ميسور أمرك أعسر

وقول المنخل اليشكري عندما دخل على فتاته خيمتها، فدفعته بيديها، وخرجت من الخيمة تمشي الهوينا:

ولقد دخلتُ على الفتاة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت  مشي القطاة إلى الغدير

لكنّ صعوبة هذا الفن الذي ازدهر في فرنسا على يد الفنان "مارسيل مارسو"، جعلت الكثيرين ينصرفون عنه، فيما ظلّ  مسرحنا يعتمد على الحوار المنطوق، كوننا أمّة تميّزت بقوّة خطابها اللغوي، ويحتاج هذا الفنّ إلى ممثل بارع يتمتّع بمهارات بدنيّة، وقدرة على التعبير من خلال ترجمة النص المنطوق إلى شكل بصري، فيتيح مجالا للتأمّل، والتفكّر، والتأويل، فالممثل هنا يحفّز خيال الجمهور على النشاط، ويعتمد على التدريب المستمر، لذا ظلّ الاقتراب منه محدودا، ولم يصل لنا إلاّ عن طريق "الاسكيتشات" الكوميديّة، وأولى العروض التي شاهدناها عبر الشاشة الصغيرة كانت مشاهد قصيرة للفنان المصري "أحمد نبيل"، وأوّل عرض بانتومايم على المسرح شاهدته منتصف الثمانينيّات كان بقاعة منتدى المسرح لفنّان درس في  ايطاليا اسمه"عدنان نعمة"،ومن ثمّ عروض الراحل "محسن الشيخ".

 لذا سعدت كثيرا عندما أقامت فرقة "هواة المسرح" حلقة عمل في النادي الثقافي حملت عنوان "لغة الجسد" مستعينة بمخرج،ومدرّب إيطالي له إنجازاته في هذا المجال، هو الفنّان "عاهد عباهنة" في خطوة شجاعة، بالنسبة لفرقة تأسّست عام2013 ، وأرادت أن تلتقي الجمهور من خلال بوّابة هذا الفن الصعب، بجهود ذاتيّة، وقد توّجت الحلقة بعرض، وقبل مشاهدتي له مع الجمهور، أتيحت لي فرصة حضور التدريبات التي كانت تستمر خمس ساعات في اليوم، فلاحظت الجهد الكبير الذي يبذله المخرج مع أعضاء الفرقة من أجل اكساب الأجساد مرونة عند الأداء، أتت أكلها في العرض ، فجاءت منسجمة مع الموسيقى، والأزياء ، وسينوغرافيا العرض الذي كان عبارة عن قطع قماش بلونين: أبيض، وأسود، تتدلّى من السقف، وتشكّل خلفيّة له، وقام المخرج بتوظيف مكان العرض، وهو بهو النادي، فجعل الجمهور على شكل حلقة تحيط بالممثلين الذين وجدوا خطابهم البصري يوجّه للجمهور من عدّة زوايا، فبذلوا جهدا مضاعفا، لايصال رسالته التي تمحورت حول الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر، في محاولة للخروج من العلبة الإيطاليّة، والشكل التقليدي في مكان العرض رغم عدم جاهزيّة القاعة، فالإضاءة كانت شبه غائبة  .

وإذ أعبّر عن فرحتي بهذا الجهد، أتمنّى لو تستمرّ مثل هذه الحلقات، وأن تخصّص الفرقة مهرجانا سنويّا للمسرح الصامت، لإنعاش هذا النوع من الفنون المسرحيّة الذي يجعل الأجساد تتحاور، بالإيماءات، مع المحيط على الخشبة.

 

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: الاحتلال بالأفكار وليس بالسلاح (١)

عدد المشاهدات = 3468 التاريخ يؤكد أن جميع القوى العظمى التى احتلت غيرها من الدول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.