الأربعاء , 15 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب:للعيد رائحة!

= 1835

Abdul razak Rubaiy

 

لكلّ عنصر مادّي رائحة، وهي حسب التعريف العلمي "مركب كيمائي متطاير في الهواء"،  وقد يكون هذا العنصر زكيّا، ومنعشا، كرائحة الورد، أو منفّرا،  كالذي كان يرشّه "رامز جلال" في الحيّز المحيط بضيوف برنامجه قبل أن يأكلوا مقلبا كريها "في الجو" ، وهناك نوع ثالث ينعش الروح التي تمتلك حاسّة شم أيضا، نحاول أن نرسم ملامحه في هذه السطور، منطلقين  من دراسة أمريكية حديثة كشفت "إنّ الأنف البشري يستطيع تمييز تريليون رائحة مختلفة، وهو أكثر بكثير مما كان يعتقده العلماء سابقا من أن الأنف يمكنه تمييز نحو 10 آلاف رائحة مختلفة"، وترى الباحثة ليزلي فوشال التي شاركت في الدراسة التي نشرتها دورية ساينس العلمية الأمريكية، ونقلتها  إذاعة (BBC)"بإمكانك أن تجعل حاسة الشم لديك أقوى، يمكنك استخدام عطور أكثر جرأة وتركيزا. نحن نستخدم جزءً بسيطا من قدراتنا على الشم"، وهذا يعني إنّنا نستطيع أن نطوّر حاسّة الشمّ ، وننمّيها ، لنهنأ أكثر بهذه الحاسّة التي هي من نعم الله علينا .

ومما يؤكّد ما ذهبت إليه الدراسة إنّ أيّة رائحة تعيدنا إلى زمن مضى ، ومكان غادرناه ، حتى لو مرّ على ذلك سنوات، وعقود  عديدة،من هنا تتعلّق النفس بالأمكنة الأولى مهما تنقّل الفؤاد حيث شئنا ، وشاء الهوى، كما يرى "أبو تمّام"، ويتمّ استحضارها من خلال رائحتها، وفي هذا يقول الشاعرالصمة القشيري:

أقول لصاحبي والعيسى تهوى

بنا بين المنيفة فالضمار

تمتّع من شميم عرار نجد

فما بعد العشيّة من عرار

بل إنّ هذه الرائحة تكون أقوى بعد نزول المطر، فيعمل على تهييجها :

ألا يا حبذا نفحات نجد

وريّا روضة غبّ القطار

وأهلك إذ يحلّ الحي نجداً

وأنت على زمانك غير زار

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهن ولا سرار

فعطر الورد الذي بنجد يعطي دلالة تؤكّد أن للأمكنة روائح خاصّة بها، كما اختصّت نجد بتلك الرائحة المميّزة، ولا يختصّ المكان وحده بالرائحة، بل الزمان أيضا، تلك الرائحة تظلّ عالقة في الروح، مغروسة في الذاكرة، فكلّما أشمّ رائحة البنّ المقلي، أعود إلى سنوات الطفولة، عندما كان المرحوم الوالد يصطحبني إلى مكان تجمّع أفراد العشيرة الذي يسمّى محليّا بـ"الديوان"، وهو ما يعرف في السلطنة بـ"السبلة"، وتكون ممزوجة بدقّات "الهاون"، إذ يهوي على حبيبات البن المتطايرة، لتحيلها إلى مسحوق يفور بالماء، قبل أن يتحوّل إلى سائل أسود يستقرّ في قعر الفنجان ليختتم الطقس برنّة مميّزة تصدر من همسة معدنيّة لفم دلّة القهوة في أذن الفنجان، ولأن هذه اللقاءات تبلغ ذروتها أيّام الأعياد الدينيّة، لذا ارتبطت رائحة البنّ المقلي بالعيد، الذي تختلف روائحه من مكان لآخر، ومن زمان لزمان، ولأنّ العيد ملك الأفراح، لذا تعدّدت تفاصيله، و روائحه ، ومنها رائحة "الكليجة"، كعك العيد العراقي، فليلة العيد أينما وجّهت أنفك، تقتحمك رائحة "الكليجة" التي هي مزيج من بيض، وزبد، وطحين، وسكر، والهيل، والجوز، والتمر، والمكسّرات، ويتمّ وضع هذه القطع الصغيرة  في "صوان"  خاصة، تحمل إلى الأفران، وبعد أن تخرج منها تكون قد اكتسبت تلك الرائحة المميّزة، وللعيد روائح أخرى هي رائحة أقمشة الملابس الجديدة التي نضعها تحت رؤوسنا قبل أن ننام، لنرتديها صباح العيد، وله رائحة النقود الورقيّة الجديدة، ورائحة حبال أراجيح الهواء، واللحم المشوي، ودماء الأضاحي، وزيارات الأضرحة، ورائحة الأمّهات، وكلّ هذه الروائح تختفي بعد الساعات الأولى من صبيحة العيد،لكنّها تقفز لتتحوّل إلى "عنصر كيميائي" يستقرّ في الذاكرة .

واليوم لم تعد أنوفنا  تميّز بين رائحة، وأخرى، لذا صارت الأمكنة واحدة، وأعيادنا  متشابهة مثل أسنان المشط، ولكي نستعيد بهجة تلك الأمكنة ،والأعياد، والتفاصيل لنجرّب تنمية قدراتنا على الشمّ مادام بإمكاننا أن نجعل حاسة الشم لدينا أقوى، وأكثر فاعليّة ، بحيث نشمّ ، روائح الأعياد . ونحن على بعد شهور من ضفافها المزدانة بالأفراح.
——————-
Razaq2005@hotmail.com

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: الاحتلال بالأفكار وليس بالسلاح (١)

عدد المشاهدات = 1448 التاريخ يؤكد أن جميع القوى العظمى التى احتلت غيرها من الدول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.