الثلاثاء , 7 مايو 2024

“زواجي الأول” .. قصة قصيرة

= 2043

Basma Abdul Kader


بقلم: بسمة عبدالقادر

حانت لحظة الحسم، جاء دوري الآن لأوثق كلمتي الأخيرة، قبضت أصابعي على القلم وقبل أن أدنيه من الورق، رفعت بصري إليها لتتغمدني تلك النظرات المستجيرة في عينيها، طعنتني في قلبي بهذيان دموعها المنهمرة؛ ارتجفت نبضاتي مع تناحر أفكاري المترددة حتى تسللت إلى ارتعاشة أصابعي، تداركت نفسي من غفلتها مع نداءٍ يكسر حدة الصمت المخيم على الغرفة التي ما جمعت بيننا إلا لتُفرقنا وسط شهود من أهلها وأهلي، وهذا الرجل الذي صحوت من غفوة أفكاري على ندائه لي (محمد)، وهنا استجمعت قراري الأخير بجرة القلم التي أيدت توقيعي على أوراق الطلاق بلمحة واثقة، وبعدها وضعت القلم وقمت مسرعا، استأذنت الحضور للمغادرة متحاشيا أية نظرة تختلس الوصول إليها لتزيد من عذابي.

مرت الدقائق مسرعة منذ غادرت بيت أهلها متجها إلى اللا مكان، كان صخب خواطري أعلى من ضجة الطريق، وعلى الرغم من ذلك كانت خطواتي أهدأ في حركتها بالمقارنة مع باقي جوارحي الثائرة، رافقت صفحة النيل وأنا أسير تارة وأتوقف تارة أخرى لأسقط بتأملاتي بين أعماقه، سافرت بين طيات حكايتي القصيرة لزواجي الذي لم يصمد لأكثر من عام واحد، بعد خِطبة ناجحة نوعا ما، تذكرت كم كان يستوطنني الحماس لفكرة الزواج في ذلك الوقت، وكم كنت أسعى وراء هذا الحُلم المشروع المتجسد في حياة مستقرة وسعادة يغمرها الحب..

وقعت عيناي في غرام (داليا) منذ رأيتها للمرة الأولى عندما تقابلنا في تعارف عائلي خُطط له مسبقا بواسطة زوجة صديق لي، رأيتها فاتنة الجمال برقتها وعذوبة ملامحها المرتسمة ببراعة إلهية، جذبتني إليها دون مقاومة من جانبي، كنت أشعر وأنا برفقتها بأني رَجُل الحظ؛ فكنت اختال بفتنتها التي تحسدني عليها أعين المتلصصين، وعندما أكلتني الغيرة نهيتها عن إضافة أية مساحيق للتجميل كلما غادرت المنزل، ولكن ما كان يثير غيظي ويملأني بالسعادة في آن واحد، أنها كانت تتألق جمالا بدون مساحيق التجميل؛ مما كان يثير رغبتي العارمة في تعجيل الزواج ويبعث لهفتي للفوز بفتاتي؛ فكنت اقتطع من وقت راحتي لمضاعفة العمل حتى انتهي من تجهيز شقة الزوجية، وكنت انتهز الدقائق المتبقية في يومي الحافل لأغفو على رنيم صوتها، وأُعدد خططي في خلق سعادتنا بعد الزواج وعن كيفية احتواء أية مشاكل يمكن أن تحول بيني وبينها..

كم كنت ساذجا في خيالاتي البسيطة التي استحال حدوثها. ما بعد الزواج هو ثمرة اختياري الحر الذي اصطدمت بخطيئته للمرة الأولى بعد أيام قليلة، شعرت عقبها بأن الوهج يخبو رويدا رويدا، كانت (داليا) زوجة مطيعة جدا، تحترمني وتحبني بقدر ما تعرف عن الحب، إلا أنها لم ترتق يوما لتطلعاتي التي كنت أحلم بها، وليس هذا ذنبها، فقد كانت تبذل أقصى ما في وسعها لإرضائي ، وكنت أتعاطف مع سجيتها البريئة ودموعها الرقيقة عندما كنت أقسو عليها في بعض الأحيان، لم تكمن المشكلة فيها أبدا عندما اغتالني شعورٌ بالملل يتخلل حياتنا بعد فترة وجيزة، كانت تلك الفترة كفيلة بأن تكشف لي عن مدى هشاشة جسر التآلف الذي يتعسر علينا بناؤه كلما حاولنا..

كنت أشعر بتلك المسافات البعيدة بيننا رغم دنوها مني، وهذا الشعور المقيت بالاغتراب الذي يحول بيني وبينها؛ فيتعذر علينا الإفصاح عن ما يجول بدواخلنا أو التصرف بانسيابية لا يقيدها الغلو في الحرص والترقب، لم تكن مشاعرنا أكثر من واجبات، أما أفكارنا فلم تجد موضعا لالتقاء، لا أنكر جهد (داليا) للوصول إلى قلبي، ولكن الحقيقة أن محاولاتها الفاترة لم تكن نابعة عن حب عميق لي، هي فقط كانت تؤدي دورها كزوجة لا تتطلع لأكثر من استقرارٍ عائلي مبني على زوجٍ وأبناء، كانت تطبق منهجا توارثته من مجتمع أجوف، حياة باردة لم أقو على تحملها..

وفي إحدى الأيام قابلت صديقا لي لم أره منذ سنوات، تحدثنا معا عن حياتي وحياته حتى أنه لم يتورع عن دعوتي للغداء في بيته، اصطحبت زوجتي بعد قبولي لدعوته، وهناك رأيت زوجته التي لم تبلغ أكثر من قدرٍ متوسط من الجمال وخاصة مع هذا الأنف الطويل وتلك البشرة السمراء، بالطبع تخللني شعورٌ بالزهو بفتنة زوجتي التي طغت بجمالها على زوجة صديقي، وبالطبع حلت بخاطري تلك الفكرة عن مشاعر الحقد والغيرة التي سيضمرها صديقي لي بعد إعجابه بزوجتي، المفاجأة أن كل هذا لم يحدث إلا في اختلاق عقلي، والعكس هو ما حدث؛ فلقد رأيت نظرات صديقي تبتلع زوجته ابتلاع عاشق مفتون بساحرته، أما هي فكانت تصرفاتها دافئة بمشاعرها الودودة تجاهه، لم يبد لي أبدا أنهما يلعبان أدوارا في مسرحية كما هو حالي مع زوجتي..

انتهزت فرصة الانفراد بصديقي وحدثته عن زواجي الذي  أجاهد في مواصلته، فهِم طبيعة ما وصفته له، وكان صريحا جدا في مواجهتي، لم أنس عبارته التي صفعني بها "انت ماعرفتش تكون جواهرجي شاطر"، أخبرني عن عيوب اختياري، وأنه إذا أردت أن أبحث عن المرأة فعلي أن أتخلل إلى أعماقها؛ لأن حقيقتها تكمن في بريق جوهرها، لا قشرة مظهرها التي افتتنت بها، وأنني كنت أعمى باكتراثي بأشياء لا تبلغ في قيمتها ما كان من المفترض أن ابحث عنه في زوجة تشاركني عمري. شعرت بقدر غبائي وتسرعي وفداحة ما أقدمت عليه من اختيارٍ ليتني تحملت نتائجه وحدي، فإن كانت هناك الكثير من الأشياء التي لم نتشاركها في زواجنا فإننا للأسف تشاركنا معا في الخسارة، لازالت دموعها المستجيرة تذبحني، كنت أعلم أن تمسكها بي ليس أكثر من خوفها من مجابهة سخرية المجتمع بعد فشل زواج لم يستمر لأكثر من عدة أشهر، أما أنا فكانت مجابهتي للمجتمع أهون عندي من الاستمرار في مسرحية التصنع وإدعاء الحياة بمشاعر تتغذى على الموت، حياة جوفاء تغزوها الرتابة، حياة لا تعرف للألفة موطنا، ولم تبلغ من الحقيقة غير السراب.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 66 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.