السبت , 18 مايو 2024

حسام أبو العلا يكتب: زمن الفرسان!

= 1570

Hosam Abulela


logo - Smallest  أراقبه من شرفة غرفتي يتسلل وحيدا تحت جنح الظلام .. ثم يهرول مسرعا وعيونه تلاحق ضوء القمر .. لا يسترعي انتباه أحدا رغم زحام المكان.. يخفي عينيه خلف نظارة سوداء ملتفحا برداء أزرق نادرا لو استبدله.. وفي يده أوراق بيضاء ومحبرة .. ويظل جالسا على صخرة العشاق يدون أشعاره حتى تبزغ الخيوط الأولى من الصباح .. سألت عنه فعلمت أنه يسكن في شارع مجاور ويلقب بـ"الشاعر الصامت " وأشعاره تنتشر منذ سنوات..

ذهبت لأحد دور النشر وكانت المرة الأولى بحياتي ..التقطت يدي ديوان له باسم "زمن الفرسان " فوجدت أشعاره تعزف سيمفونية جميلة من المشاعر والأحاسيس ..وكلماته مثل نهر من الحنان ينفجر فيروي عطش العاشقين .. بينما عباراته دافئة مثل الشمس التي تسطع في يوم ترتعد فيه الأجساد من  البرد.. كان صامتا حزينا .. نادرا لو وجدته يتحدث مع أحد ..

دفعني هذا الشخص المثير الغامض لسبر أغواره .. وكنت اتساءل كيف لم يلحظ جمالي ..؟

فالكل يتغني به ويتمنى أن أرشقه لو بكلمة.. لماذا هذا الرجل ربما الوحيد الذي لم يعجب بي؟..

كنت أشعر أن وراءه قصة مثيرة دفعني فضولي لمعرفتها ولكن كيف سأبادر بالحديث معه فأنا لم أفعلها من قبل فقد تعودت أن الكل يطلبني ويتمناني وينتظر كلمة مني ؟ .. ترددت كثيرا أن اتحدث معه كما فكرت في الوسيلة أو المبرر الذي يجعل بيننا نقطة تلاقي، فوجدت الموقف صعبا فصرفت النظر عنه لكني كان دوما بداخلي رغبة بأن أعرف كل شيء عن هذا الجار الصامت .

لم أكن ممن يحضرون ندوات الشعر أو مهمتة بالأدب لكن صديقتي آمال كانت متيمة بالشعر دعتني ذات مرة لحضور مناقشة ديوانها الأول وكانت المفاجأة حضور "الشاعر الحزين" ، خفق قلبي وزدات نبضاته ربما للمرة الأولى منذ أن كنت فتاة تداعب نسائم الحب خصلات شعري، وفي وقت كنت أبحث فيه عن الهروب لأخفي ارتباكي تقدمت صديقتي وقدمتني لجاري الذي لا يعرفني ، كان لطيفا مبتسما كلماته معدودة ، ولكن من يتأمل النظر في عينيه سيجدها حزينة ذابلة , انصرف سريعا دون أن يصافحني ، فشعرت بالحزن كان بداخلي رغبة أن يمنحني اهتماما لو للحظات مثل اهتمامي به المدفون بأعماقي والذي لا أجد له تفسيرا..

 قلت لصديقتي ما هذا الإنسان الغريب في محاولة لجذب انتباهها ، فردت سريعا هو هكذا يبدو رقيقا لطيفا ثم فجأة يتركنا ويذهب ويختفي دون أن ندري ما السبب ، لكنه يملك أحساسا نادرا قلما يوجد في رجل .. فقاطعتها بلهفة لسماع المزيد ما حكايته فقالت :" ما سر اهتمامك به ؟." فجاوبتها بخجل :" هل تصدقين أنه جاري ولا يعرفني وجذب انتباهي بشخصيته الصامتة الحزينة.؟" فابتسمت قائلة :" للمرة الأولى منذ صداقتنا التي ترجع لسنوات أراك معجبة بشخص ، في كل مرة كنت تحكي لي عن معجبيك وعشاقك وكنا نتهكم على بعضهم ."

وجدتني في موقف المدافع عن نفسي للمرة الأولى فلم يهزمني الإحساس يوما ، ولم يخترق الحب قلبي ، يبدو أن كبريائي منعني من إكمال الحديث فاعتذرت لصديقتي لرغبتي في الرحيل خشية التأخر في العودة للمنزل لزحام الطريق ، هرولت سريعا نحو سيارتي ، وانطلقت مسرعة وفي عقلي رغبة بألا اتحدث مع صديقتي عن "الشاعر الحزين "، بينما كان في قلبي حنين لكي يجمعني القدر بجاري الصامت ، كان السؤال الذي يشغل تفكيري ولا أجد له إجابة لماذا هذا الرجل رغم أن كثيرين ينتظرون مني كلمة ؟ ..

مرت أيام وعيناي تطاردان نافذة غرفتي لكنني كنت أقاوم إحساسي برؤيته وهو يمر في موعده ، وذات مرة كنت واقفة انتظر خروج ابنتي من مدرستها ، وساورني القلق بعدما تأخرت في الخروج في موعدها فاشتعلت نيران القلق بقلبي على فلذة كبدي التي تركها لي والداها ورحل في ريعان شبابه ليتركني مطمعا لأغلب الرجال ، لكني وهبت حياتي لتربية ابنتي وعشت سنوات وحيدة فقد رحلت أمي وأنا طفلة صغيرة ، وقبل سنوات لحق بها والدي ، بينما تعيش شقيقتي الوحيدة في دولة خليجية ، هرولت مسرعة نحو باب المدرسة لاستفسر عن سبب تأخر ابنتي فطلبت مني المشرفة الانتظار دقائق حتى انتهاء لجنة تفتيش من عملها بالمدرسة..

 فتحت مذياع السيارة فدغدغت مشاعري وأحاسيسي أغنية "مشيت على الأشواك " للعندليب، التفت لأشاهد من يسمع الأغنية ذاتها في السيارة المجاورة ، فوجدته جاري الذي تحول لقدري ما أثار استغرابي وتخيلت للحظات أنني أحلم أو أعيش تفاصيل قصة محبوكة بحرفية فلا يمكن أن التقيه مرتين دون أي ترتيب ، ولكن يبدو أن القدر يصر أن يجمعني به ، وما أن التقيت عيوننا حتى فوجئت به يترجل من سيارته ويذهب نحوي..صافحني واعتذر عن رحيله من حفل ديوان صديقتي دون أن يلقي على السلام  لمرض ابنته التي علمت منه انها في مدرسة ابنتي ، ثم خرجت ابنتي وابنته من المدرسة وذهب كل منا في طريقه ..

احترت في هذا الشاعر الذي يتناقض حديثه الودود اللطيف مع شخصيته المنعزلة عن البشر, عزمت على أن احطم قيود صمته فذهبت لصخرة العشاق حيث كان يجلس دوما ، والقيت عليه السلام فصافحني بحرارة ، وبدأت أحدثه عن إعجابي بأشعاره الجميلة فلاحظت تواضعه الشديد ..هنا هاجمته بقوة بغرض استفزازه وطالبته بأن يقص علي حكايته وأسباب وحدته والحزن الذي يغلف كلماته ، فقال من في هذه الدنيا لم تهزمه الأحزان ؟ .. طالبته بتوضيح فقال:" توفيت زوجتي منذ ثلاث سنوات وتركت لي ابنتي التي وهبتها حياتي ،  ونسجت من خيوط الأمل أحلاما لإساعدها ، ثم ابتلاني الله مجددا بمرض ابنتي فتعمقت جراحي ، لكني صابر على قدري ، وأواصل حياتي لكي تبصر زهرتي النور وتتفتح في بستان الحياة.

قلت له :" ألم تفكر يوما في الزواج ، هذا حقك ، فأنت تحتاج زوجة تكن لك حضنا دافئا ، وتساعدك في رعاية ابنتك ." فرد بحسم :" لن يكون هناك أحن على ابنتي مني ، ومهما أظهرت الزوجة الجديدة من محبة ، فتفاصيل الحياة وصعوبتها كفيلة أن تبدد الرحمة المؤقتة إلى قسوة , فنحن في زمن ماتت فيه أخلاق الفرسان."  نصحته بأن يعيد تفكيره فقال :" إنه طالما على قيد الحياة لن تكون هناك أم بديلة لابنته."

ثم طالبني بأن أقص عليه حكايته فقلت له أنها لا تختلف كثيرا عنه ولكنني أحلم يوما بأن أعثر على "فارس نبيل" ، كنت انتظر منه كلمة تمنحني أملا بأنه سيغير موقفه ، لكن صمته كان أبلغ من أي رد ..صافحته وانصرفت .. وأدركت بالفعل أنني خسرت فارسا من الزمن الجميل.

شاهد أيضاً

(جميعهم أغراب)…بقلم: نبيلة حسن عبدالمقصود

عدد المشاهدات = 6459جميعهم أغراب إلى أن يثبت العكس. يظل كل شيء جميلا من الظاهر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.