الأربعاء , 8 مايو 2024

بسمة عبدالقادر تكتب: “أمام اللهب” – قصة قصيرة

= 1474

Basma Abdul Kader

 

كعادته كل يوم، يدخل بقدميه العاريتين، يحمل (جوالا) كبيرا على كتفه، عضلاته الفتية كانت كفيلة بحمل مثل هذه الأحمال الكبيرة، على الرغم من إنحنائة ظهره. الذي كان يُعسر من مهمته؛ تلك الألواح الصغيرة، والقطع المدببة من مخلفات الأخشاب، تطل بأطرافها الحادة من بين ثنايا (الجوال) لتخترق ظهره. 

ساعة الظهيرة ، قريبا من الفوهة نصف دائرية، يُفرغ (الجوال) ، يأخذ كتلة من قطع الخشب، يبسطها على مطرحة  طويلة من الخشب أيضا، يقبض على يدها الرفيعة، الطويلة – بكلتا كفيه – ويدفع بها إلى داخل الفرن الأسمنتي، بهيم اللون، شاسع الأركان، تشتعل النيران في موضع الوقود، ينظر بعينيه الغائرتين إلى أكياس السمك، حيث يطرحها أصحابها أمامه بعشوائية، يأخذ الأكياس، يتصفح فحواها، يحاذيها في صفوف، بكساء من خبرة دثره بها الشعر الأبيض. 

أمام الفرن، قضى سنوات عمره، دون معاونة من أحد، ولا تشفع التجاعيد العابثة على وجهه من إقصاء أحد الزبائن عن إستعجاله في الشواء، ولم تُحمى النار بعد، ولم يمتص الفرن حرارته بعد، فيهمس له الفرن: "لم أتهيأ بعد" !

ينظر إلى النار، كانت تخبو في وهن، تترنح كالتي تستلقي بجسدها، يلتقط مخلفات الورق والأكياس الفارغة المبعثرة من حوله، يطعم النار، تذكر يوما أنه سألها، أي الطعام تفضلين؟؛ فكانت إجابتها "لا يهم"، حقا لا يهم، المهم أنها تأكل، والأهم أن يبقى يقظا للحفاظ على حياتها. استعادت عافيتها، علت طقطقاتها، ها قد شعرت بالشبع، ولكن النار لا تشبع أبدا؛ ربما لأنها تحمد خالقها؛ فتُمنَح، وعندما تُمنَح تَمنح، هكذا هي منذ عرفها. 
 
يدير مؤشر التلفاز؛ يتجول بأنظاره بين ما تتناقله الشاشة من أحوال، وبين ما تطرب له أسماعه من حكايات الزبائن، وكلها ذات أهمية طالما تشغله عن سطوة اللهب.
 
يصوب اهتمامه للفرن، هاقد تأهب للعمل، يلتقط أحد الأكياس من الصف، يفرغ ما بها، ينثر بعضا من نشارة الخشب، يخلطها بالسمك؛ فيكسوه بصبغة الخشب، أصابعه القاسية بارعة، يوزع بها الأسماك على المطرحة الخشبية، على شكل صفوف منمقة ذات خصوصية، يدفع بلوحته الفنية إلى بقعة محددة داخل الفرن، وهكذا .. يعيد الكَرة حتى يمتليء الفرن، يسحب سيجارة من العلبة الراقدة على الرف المجاور له، يشعلها، يرتشف نفسا عميقا، ترتخي عيناه مع انبعاث دخانها، ينسحب عقله في سكون، يصوب نظراته عند الباب، يوزعها بين العابرين على الطريق، وبين ما يثير فضوله على التلفاز. 

يلقى بعُقب سيجارته على الأرض، يلتقط المطرحة الطويلة، يدخلها الفرن فارغة، يستخرج طائفة السمك الأولى، يقلب كل سمكة على حده، ومع حركة يده السريعة ، تُلدغ أصابعه من ولع البخار المنبعث من أجساد السمك؛ فتلوذ بإخماد حراراتها في طيات قميصه الأبيض، القميص الذي عاصر وقوفه لسنواتٍ أمام اللهب؛ فكان بلونه الأبيض الجاف يذوب اعتصارا مع تسلل البخار إلى جسد الرجل، كان رفيقه الوفي، يستندان معا جدار التحمل ساعات وساعات، حتى إذا ما انتهى يوم العمل، فقد القميص سطوعه مكتسيا بالسواد، كحال صاحبه المُخضبة بشرته بالسُمرة، كان يلجأ إليه بين الحين والحين؛ ليجفف خيوط العرق المنسالة من جبهته. 

رغم قسوة مهنته، لم يشكو منها قط، أحيانا يتساءل، كيف صمد كل هذه السنوات أمام اللهب، ولم تنتابه أية رغبة في تغيير صنعته، زاولها منذ عمر الحادية عشر، ولم يشعر معها إلا بالرضى، تُدر عليه دخلا معقولا، ولا تتطلب أكثر من بضع ساعات؛ فتسنح له فرصة التفرغ باقي اليوم؛ لمزاولة عمله في سمسمرة العقارات، دكان (الفرَّان) مقرا ملائما لعقد صفقات البيع والشراء، يعرض صاحب العقار رغبته في البيع أو الإيجار، داعما العجوز بالمواصفات؛ فيقوم هو بدور الوساطة ، يطرح البضاعة أمام زبائنه لمن يرغب منهم، وعندما يتحسس من أحدهم نية القبول، يصحبه لمعاينة المكان، بعد انتهائه من دوام العمل في الفرن. 

يلتقط مبرد الخشب، يبرد الأطراف المتشققة على طرف المطرحة، حتى تصير ناعمة، يلتقط أحد أكياس السمك ويفرغها باستياء، فتقفز سمكة متمردة من بين يديه، يقبض عليها بكفه الأيسر، ثم يهوى بقبضته اليمنى على رأسها – بطرقة واحدة – تستكين؛ فيعلم أن الروح قد غادرتها، تلتمع في عينيه نظرة رثاء، يدخل السمك إلى الفرن، تتصلب أبصاره مع مشهد السمك المحترق، تنبجس أفكارٌ لم يعلن عنها إلا لنفسه؛ الموت، غذاء النار الذي تلتقطه من أية حياة؛ لكي تحيا النار، تموت بقية الأحياء، تبادره التساؤلات نفسها: "هل يشعر السمك بالاحتراق بعد أن تفارقه الروح؟، هل يواجه العذاب الآن، أم أنه مُهدى بروحٍ تبرأ من العقاب؛ فلا ينال نفس قسط الإنسان من الحساب؟". 

لا يهتدِ إلى إجابات واضحة لتساؤلاته؛ ولكنه لا شك يحسد السمك، يحسده على مفارقة الحياة قبل أن ينال هذا المصير الصعب؛ فأي ذنب قد يرتكبه السمك ليُعذَب؟!، السمك لا يعرف القتل إلا للغذاء، ولا يعرف المكيدة إلا للبقاء، ربما لهذا السبب كان يحرص على التيقن من موت السمك قبل إدخاله إلى النار؛ فإن غفل يوما عن سمكة حية، كان عليه أن يلعق من مرارة مشاعرها، تستغيث بقفزاتها العشوائية في الهواء، لا تملك مفرا من تآكل النيران لجسدها، وإن حالفها الحظ ونجحت في الهرب؛ التقطها قِطٌ جائع متربص. 

تساءل .. لِمَ يُبالي بمشاعر سمكة؟!؛ ربما لأنها تجسد أمامه صورة لمصيرٍ يخشى ملاقاته. ولكن؛ ماذا عن النار؟!، لم لا تشعر بعذابات ما تآكله؟، ربما كانت تشعر، وكيف لا تشعر وأحيانا يراها تستلذ بطعامها!، يخيل إليه أنها ذات قلب أجوف، لا يبالي بأي شيء، تتجبر على كل ضعفاء الأرض، وتجثو أمام قطرة ماء. 

يجف ريقه، يشعر بأنفاسه تقدح كتنين هائج، يتذكر زجاجة المياه، يلتقطها بعد أن غزت الحرارة ثلجها فأذابته، يرفعها إلى فمه، يفرغها في جوفه دفعة واحدة. ومع حلول الساعة الثانية، يقدم ابنه الأصغر، شاب على مشارف العشرين من عمره، تصاحبه طلة ذات كبرياء، يدعوه لمحادثته بعيدا عن أسماع الحاضرين؛ فيستجيب الأب لندائه، ملتقطا بعض لفحات النسيم الخجولة بعيدا عن فوهة الفرن، ينشب حوارٌ هامس فيما بينهما، تحت أنظار قلقة، تخشى احتراق أسماكها، يرتفع صوت (الفرَّان) صارخا في وجه ابنه، يحاول الابن تهدئته بلا جدوى؛ فيؤثر المغادرة بعد أن طعنته خناجر الحرج، يعود (الفرَّان) ليستأنف عمله في صمت، ثم يغمغم بنبرة يغلفها الأسى: " الولد واحد في وسط بنات لكن البنات أجدع .. وقف يومين على باب النار وقالي قوم واسرح .. النار تقيلة عليا يا أبويا وأنا فيها مش هفلح"!
 
لا يعقب أحد من الحاضرين، تبدو الغُصة جلية على شفاه (عم فرج)، وتبرز الخطوط الجائرة حول عينيه، يتأمل حاله في سكون، ولده الوحيد بين رزقه الواسع من البنات، لا يفتأ أن يزيد من عمره عمرا آخر، تتخدر قدماه وتفقد قدرتها على حمله؛ فيهوي جسده على الأرض ، يتذكر والده، كان يدفعه دفعا وراء المشقة، لم يكن يعبأ بأوجاعه يوما، ولا بالعروق البارزة من قدميه طوال صحبته أمام الفرن، ويتذكر قوله: "من يفنىَ عُمره أمام اللهب ليس له ولد".

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: وداع يليق بإنسان جميل

عدد المشاهدات = 1137 صدق المبدع مرسى جميل عزيز عندما قال : على طول الحياة.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.