كتبت : د.سناء الجمل
إن فكرة الإنسان متعدد المواهب صارت مقبولة هذه الأيام مع التأكيد على أنه بمقدور أى فرد أن ينمى قدراته من خلال تجاربه الحياتية ومعرفته المكتسبة، بالإضافة إلى توسيع نطاق فهم طبيعة ومجالات الذكاء ,فالأبحاث التى قام بها الباحثون النفسيون المحدثون, كشفت حقائق مذهلة عن القدرات الكامنة عند كل إنسان, حتى أنه يمكننا القول أن دماغك أفضل بكثير مما تعتقد.
إنه أكثر قدرة على الإستيعاب من أى حاسوب متطور عملاق، بمقدورنا اكتساب معرفة لعدة حقائق معا فى كل ثانية, وعلى مدى العمر , وبرغم هذا تبقى هناك مساحات فارغة, حيث أن عقلك يتطور باستمرار مع العمر إذا أحسنت استعماله ,فالذكاء لا يتموضع فى الرأس فقط ,بل واستنادا إلى أبحاث د.”كانداس بيرت” طبيب الأعصاب أنه فى كل خلية من خلايا الجسد توجد موصلات كيميائية ترسل إشارات دائمة إلى المخ ,أى أن للعقل جزيئات منتشرة فى كل أنحاء الجسد ,لذا فنظرية تمركز العقل فى الدماغ لم تعد صالحة.
والذكاء فردى وخاص، فمن بين الثمانية مليار نسمة الذين يقطنون الكرة الأرضية اليوم أو بين ما يزيد عن مائة مليار نسمة عاشوا على هذه الأرض لا أحد يشكل توأمك المثالى, لا فى بصمات الأصابع ولا فى كيفية التفكيرولا فى الحمض النووى ولا حتى فى الأحلام والتطلعات,إنك لا تشبه أحدا ولا أحد يشبهك, نظرا للطاقات والقدرات الهائلة التى خلقنا الله بها ومن بين هذا العدد الهائل من البشر لم يجد العلماء أى شخص استطاع استيعاب الحد الأدنى لقدرات الدماغ البشرى اللامحدودة ولا يوجد إنسان فى الماضى ولا فى الحاضر استعمل كامل قدراته العقلية, وحتى ليوناردو دافنشى نفسه أهم عباقرة التاريخ لم يفعل ذلك, وإن كان مثالا لم يتكرر للعبقرية الإنسانية على مر التاريخ.
ولا يقتصر قياس الذكاء على التفوق فى مجال الرياضيات والعلاقات المنطقية والقدرة على الجدال والتأثير فى الآخرين كما كان شائعا ، بل أكدت الدراسات النفسية أن مستويات قياس الذكاء تشمل سبع قدرات وهى المنطق الرياضى والتى يمثلها اسحق نيوتن وستيفن هاوكن ومارى كيرى ، والخطابة والكتابة مثل شكسبيرواميلى ديكنسون وجورج لويس بورج ، والفنون مثل مايكل انجلووجورجيا اوكليف وبيوكمنستر فوللر والموسيقى ويمثلها موزارت وايلا فيتز جيرالد، والقدرات الجسدية مثل محمد على كلاى ومورى بوشيب والتأثير والتعامل مع الآخرين مثل نيلسون مانديلا وغاندى والمعرفة الذاتية مثل الأم تيريزا وفيكتور فرانكل.
وقد ذكر المؤرخون أن كل القدرات العقلية السابقة قد تحققت لدى ليوناردو دافنشى بل ووصلت بالقياس والتجريب والاختراع والإبداع والابتكار إلى درجة العبقرية ، أى أن كل عوامل الذكاء والعبقرية قد اجتمعت لدى ليوناردو دافنشى مما جعله مستحقا أن يكون أهم عباقرة التاريخ الإنسانى ، وهذا يثبت أن الإنسان يمكنه أن يمتلك ذكاءات متعددة ، كما يؤكد أن الله خلق بداخلنا ثروات عقلية وموارد وقدرات غير محدودة ، والمطلوب منا فقط أن نبحث عنها ونحسن استخدامها.
ولكن كيف استطاع دافنشى أن يستخرج كنوزه وثرواته العقلية ، وكيف استطاع أن ينميها لتثمر كل هذه العبقرية والعلم، إن استغلال الطاقة العقلية هو السبيل الأفضل لتحفيز الإبداع أو كما يقول دافنشى ” الإسراع فى الإبداع ” ، فعندما تفكر بفكرة معينة أو شىء ترغب فى تحقيقه أو بسؤال تحتاج للإجابة عليه ويتطلب تفكيرا صافيا ، فلا تؤجله بل استعمل صفحة بيضاء كبيرة وارسم فى وسطها صورة تجريدية (تخطيطية) للموضوع المطروح أو الفكرة التى تراود ذهنك وارسم تفرعات لهذه الصور وناقش الفكرة على الورق ، ستجد أن الافكار تتوالى على رأسك وتبلور الموضوع الرئيسى فى ذهنك وتضعه فى قالب معد للتنفيذ أو كما قال دافنشى ” كن قادرا على الرؤية ، رؤية الأشياء وتحليلها إلى أبعد الحدود حتى تكون قادرا على استيعابها كاملة”.
إن مقرر دافنشى فى الرسم مصمم ليوحى بعلاقة حب مع كل العالم من حولك, علاقة تدوم مدى الحياة وهى فن “معرفة كيف ترى” فالرسم على طريقة المايسترو “دافنشى” هو فن ممارسة الغزل والحب مع كل شىء حولك من خلال عينيك ,فتتلذذ بإغراء اللون وحيوية الكتلة ورومانسية الضوء والعتمة ,مارس, جرب, تراجع ,تنفس, تسلى ولكى توطد العلاقة بينك وبين رسوماتك ,اعمد إلى تأريخها وتوقيعها والإحتفاظ بها, ذلك أنها ستشكل سجلا رائعا لتطور رؤيتك للعالم , وتلك هى العبقرية فى الرؤية ,أن تتفحص كل شىء بعينيك وكأنك تغازله وتهيم به عشقا وتسرح بخيالك فى تفاصيله ومكوناته.
ولا تستهين بأفكارك مهما كانت تبدو بسيطة ومهما أحبطك المحبطون حولك، بل ثابر وصمم على التنفيذ وابحث عن نقاط الضعف بالفكرة وتعلم كيف تقويها وتتغلب عليها وتصلح منها ، وتذكر أنه حتى أهم العباقرة عانوا من النقد وواجهوا الإحباط من آراء الآخرين فى عملهم ولكنهم لم يستسلموا ، فلم يتوقف هنرى فورد حينما اتهمه الناس بالجنون لأنه فكر فى اختراع السيارة التى تسير بدون الأحصنة ، وتوماس أديسون الذى لم يكن يؤمن بعبقريته ونبوغه إلا والدته وحتى دافنشى اتهم بأن أفكاره قد تبدو بسيطة ويمكن لأى شخص أن يقوم بها وعندما فكر فى اختراع المدفع الحربى الذى لا تهزمه أية أسلحة ويعمل فقط بالمواد الكيميائية اتهم بالجنون حتى اخترعه فعلا ، ووضع هندسة بالغة الدقة للحصون والسراديب والممرات السرية التى يعجز العلماء عن فهمها حتى الآن وقام برسم لوحات تشعر وكأن شخصياتها أحياء يتحدثون وينظرون إليك وكأنهم من لحم ودم برغم قلة الإمكانيات فى ذلك العصر ، إلا أنه كان يرى أن السر يكمن فى عين الإنسان وقدرته على الملاحظة وتشريح الأشياء من خلال تفحصها بنظراته والغوص فى داخلها واكتشاف الروابط التى تربطها ببعضها.
وبرغم كل إبداعات دافنشىإلا أنه اتهم فى بعض الأوقات بالسطحية وأن أفكاره غريبة وبسيطة ومدعاة للضحك ، وبرغم ذلك كان فلكيا عظيما يتنبأ بالطقس واتجاه الرياح وموعد الأمطار ويعرف مواسم الزراعة ويجيدها بكل أنواعها فكان يزرع الأشجار والزهور ويعرف طرق عمل الشتلات ويمكنه نقل أى نبات من مكان إلى آخر دون أن يتضرر وكان موسيقيا وفارسا وكاتبا ومهما تعرض للنقد لم يكن يستسلم أو يتوقف عن العمل والعطاء بل كان شديد الإيمان بنفسه وبقدراته وشديد الثقة بعقله وتفكيره ، وهذا ما عليك أنت فعله ، ألا تتوقف عن التفكير بكل ما هو جديد ومفيد ، استمر فى التعلم.
إذن إيمانك بفكرتك هو أحد أسرار العباقرة وهو من أهم أسباب اصرارك عليها والسعى والمثابرة لتنفيذها ، فلا تتوقف عن التفكير ، وارسم فكرتك لتتضح معالمها أمام عينيك.
——————————–
* استشارى الإرشاد النفسى والمهنى وتطوير الذات
المقال من كتابى “حياتك بين يديك..اصنعها بنفسك”.