الخميس , 28 مارس 2024

“علموهم الإبداع” … مقال بقلم: مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

= 3067

ننظرُ إلى المبدعين والناجحين على أنهم أناس من كوكب مُختلف، يمتلكون مواهب ربانية لا نملكها؛ لأن الإبداع- من وجهة نظرنا- كالذكاء، خصّ به الله بعض البشر، إلّا أن الأبحاث العلمية تقول غير ذلك.. ووفقًا لاختبارات جورج لاند والتي أجريت على 1600 طفلٍ، تتراوح أعمارهم بين الرابعة والخامسة، لقياس القدرة على التوصل لأفكار جديدة ومبتكرة للمشكلات، وجد العلماء أن 98 في المئة من الأطفال، يقعون تحت فئة الموهويين.

ولم تتوقف الدراسة عند هذا الحد، فقد استمر العلماء في اختبار نفس الأطفال، مع بلوغهم سن العاشرة، ووجدوا أن 30 في المئة ما زالوا يقعون ضمن فئة الموهوبين. وكرّروا التجربة عند بلوغ الأطفال سنّ 15 عامًا، وكانت النتيجة أن 2 في المئة فقط ما زالوا موهوبين! وأعاد العلماء نفس التجارب مئات المرات، وتوصّلوا إلى أن الإنسان يفقد الموهبة، بسبب البيئة ونوع التعليم الذي يتلقّاه الطفل؛ سواء أكان بالمدرسة، أو داخل البيت، أو حتى في المُجتمع.

وهناك نوعان من التفكير؛ الأول: التباعدي، وهو التخيل، والتقاربي: وهو نوع من التفكير المسؤول عن التقييم والنقد. وهذا النوع من التفكير يكبح الأول “التخيل”، ويكون ذلك ناتجا عن أساليب التعليم، التي عادة ما تجمع بين النوعين من التفكير في آنٍ واحد. فعلى سبيل المثال عندما نطلب من الطفل أن يبتكر حلولًا لمشكلة، أو أن يكون مبدعًا في أفكاره، فحالما يقوم بذلك نقول له سبق، وأن جرّبنا كل الحلول ولم تنفع، هذه الفكرة غير صالحة، ولن نتمكن من تنفيذ الفكرة… وهكذا. إننا بذلك نكبح من عمل الدماغ ونقيد قوته، فنحن نقيم، وننتقد، ونعدّل، ونقص كالرقيب فيذهب الإبداع. يقول لاند إن العمل والتفكير تحت تأثير الخوف يُعطل الإبداع، ونستخدم جزءًا أصغر من الدماغ، أما عندما نستخدم الخيال والتفكير الإبداعي، فإن الدماغ يضيء، ويتقد لذلك علينا أن نبحث عن طفل ذي خمسة أعوام في داخلنا كي نبدع.

ومن التحدّيات التي تواجه صناعة الابتكار، النظم التعليمية والتربوية، التي تعتمد على التلقين، والتنظير، وكبح التفكير، والمناهج الجاهزة، حتى البحوث التي يفترض أن تبنى وفق الأسس العلمية أصيبت بداء القص واللصق والنقل. لذا لا بُد من تفعيل العقل في التفكير النقدي الذي يعتمد على تحليل المشكلة وطرح فرضيات لحل المشكلات، بالتفكير الإبداعي الخارج عن سياق المتعارف عليه، وعن المسلمات.

وأول خطوة نحو الإبداع، اعتماد الفضول العلمي كوسيلة للابتكار، والأبحاث المبنية عليها وإقامة بيئة بحثية غير رتيبة، تحارب المألوف والروتين تنتج فكرا جديدًا؛ فالمبدعون لا يستطيعون العمل في أجواء بيروقراطية، وسلاسل عمل طويلة من الإجراءات المكتبية؛ بل ينتمون إلى بيئة مُنفتحة علميًا ومناخ محفز للابتكار يسهل فيه التبادل المعرفي بين أفراد غير مقيدين بالأعمال الإدارية. وفي الدول النشطة في المجالات الإبداعية، نرى أن العلماء والمؤلفين والأدباء لديهم مساعدين يتولون الجانب الإداري وجمع المعلومات.

يحتاج المبدع إلى الأمان المادي والفكري، لذلك تشجع بعض المجتمعات المبدعين بمنحهم التفرغ من العمل الإداري، ليصبح متفرغًا كليًا للعمل الإبداعي، ويُمنح دخلًا ثابتًا، حتى ينجز المشروع، وأحيانًا يتم منحه نسبة من الأرباح .

وتسعى بعض الدول إلى توطين الإبداع، وبناء بنية تحتية للابتكار، وتمول الأفكار الإبداعية، حتى تصبح في المستقبل مجتمعات مبتكرة تمتلك مصانع للابتكار، لذلك تستقطب العقول المبدعة، والخلاقة من مختلف أرجاء العالم، وتمنحهم مساحة واسعة من الحرية حتى ينجزون أفكارهم .

وعلى الصعيد الداخلي، تغيرت نظم التعليم، إلى تعليم يعتمد على التفكير النقدي، والبحث عن الحقيقة، واكتشاف المجهول، ونبذ التلقين، والحفظ، والتنظير، وكافة الطرق التي تمنع عقل الإنسان من التفكير، لبناء أجيال من المبدعين في كافة المجالات. وعلى الآباء أن لا يجعلوا كلّ شيء متاحًا للأطفال؛ بل عليهم أن يساعدوهم على الابتكار، وتعلم العلوم والرياضيات في الحياة اليومية، والتقنيات الحديثة، وقضاء أوقات أطول في الطبيعة لاكتشافها، والتفكر والتأمل، وتوظيف حواسهم في التعلم، وتخصيص مساحة خاصة، تحت سلطة الطفل لممارسة الأنشطة الإبداعية. يقول المخترع آلن كاي إن “أفضل طريقة لتخيل المستقبل هي اختراعه”!

ويقول توماس أديسون إن الإلهام يمثل واحدًا في المئة من الإبداع، أما الجهد والعمل فإنهما يمثلان باقي العمل الإبداعي؛ فالإبداع لا يحتاج إلى ذكاء، أو عبقرية فذة؛ بل إلى جهد وعمل متواصلين، وإن تعليم الإبداع للأطفال يساعدهم على أن يكونوا مبدعين ومبتكرين في كل شيء في حياتهم.

إن كانت الرماية وركوب الخيل والسباحة من المهارات السائدة في العصور القديمة التي كان يُفترض أن يتعلمها الأبناء، فإننا في القرن الواحد والعشرين يحتاج أبناؤنا إلى تعلم مهارات تتناسب مع لغة العصر تبني قدرتهم التنافسية وتنفعهم لمستقبلهم. فكما نهتم بإلحاقهم بالنوادي الرياضية، لتعلم كرة القدم، والتنس، والفنون القتالية، فلماذا لا نلحقهم ببرامج التدريب، والرحلات العلمية، التي تنمي روح الإبداع والابتكار؟ لماذا لا نمنحهم مساحة لوضع حلول للمشكلات داخل الأسرة والمدرسة والقرية أو المدينة؟ فالطفل في سنواته العشر الأولى، يتمتع بصفاء العقل، كما إن القلب لا يتلوث بالخبرات السلبية، أو الحلول الجاهزة، وبالتالي يمتلك من المهارات ما يساعده على تقديم حلول ممكنة للمشكلات، من زوايا لم نفكر فيها!

حكت لي صديقة، أنها تقوم بمنح مسؤولية إدارة المنزل يومًا واحدًا في الأسبوع لكل طفل من أطفالها، حتى يتعلموا مهارات تحمل المسؤولية، وإدارة المشكلات والتواصل والعمل الجماعي وغيرها من المهارات التي لا يمكن تعلمها نظريًا.

لقد حبانا الله العقل حتى نفكر ونبتكر ونبدع ونصنع حلولا لمشكلاتنا ونعمر الأرض، ولم يخلقنا بأجنحة، لكن في المقابل استطاع الإنسان أن يطير، ولم يخلق له خياشيم لكنه استطاع الغوص في الأعماق.. أفلا يستدعي كل هذا أن نفكر في الحكمة من تمييزنا بالعقل؟

لا شك أن بناء المعرفة ليست عملية سهلة؛ بل تحتاج إلى عقود حتى نلتمس نتائجها، إلّا أنها الأساس الذي تنهض به الأمم، ومشوار الألف ميل يبدأ بخطوة نحو الغد بجيل من المبدعين يحملون أفكارًا مُبتكرة.

————–
* كاتبة عمانية.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: سندوتش المدرسة.. صدقة وزكاة

عدد المشاهدات = 6631 لا ينكر إلا جاحد ان الشعب المصرى شعب أصيل، شعب جدع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.