الخميس , 28 مارس 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: تاريخ دولة ومسالك ملوك

= 9280

لستُ من محبّي صعود السيّارات، ربّما لأنني كنت في طفولتي أعاني من الدوار عند ركوبها، وليس لي أيّ إلمام بموديلاتها، وأنواعها، لكنّني في زيارتي لعمّان، كنت حريصا على زيارة متحف السيارات الملكي، فالسيّارة في هذا المكان تصبح أكثر من وسيلة نقل، فهي تاريخ، وأحداث، وفخامة، علما بأنّه لا يقتصر على السيّارات، كما يشير اسمه، بل يضمّ دراجات نارية، ومقابل بوّابته، شاهدت طائرة كان يقودها جلالة الملك الحسين، ومحتويات أخرى، لكن السيارات استحوذت على المساحة العظمى من المتحف الذي أفتُتح عام 2003، (يبلغ عددها أكثر من 100 سيارة)، فاحتلّت العنوان.

وقبل دخوله، وكنتُ برفقة الدكتور محمود السليمي، والشاعرة جمانة الطراونة، تجوّلنا في حدائق الحسين، وتفيّأنا ظلال أشجارها المصطفّة حول بناية المتحف التابع لدائرة المشاريع والبرامج التراثية، وخلال ذلك استحضرت ثلاثة مشاهد؛ الأول شاهده معي الملايين عند تشييع جثمان السلطان قابوس بن سعيد- طيّب الله ثراه- عندما حملته سيارة( لاند روفر) يعلم الجميع أنها ذاتها التي قدم بها من صلالة إلى مسقط، قادمًا لتولّي مقاليد الحكم عام 1970، حسب وصية المغفور له، ولم تتوقف عند المقبرة بل واصلت طريقها إلى متحف قوات السلطان المسلحة، لتستقر هناك، والمشهد الثاني، رأيته مع صديق لي، جرى قرب تقاطع منطقة القادسية ببغداد، أواسط الثمانينيات، عندما اخضرّت إشارة المرور، لكنّ مفرزة الحماية الرئاسية (أفراد من الحرس الجمهوري) منعتنا من الحركة، وبقينا ننتظر لدقائق، وإذا بموكب يقترب قادما من المطار، تتقدمه سيارة سوداء، مرت أمامنا، بلحظة خاطفة، وفيها يجلس جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله، الذي كان في زيارة لبغداد.

أما المشهد الثالث، فهو يعيدني إلى أيام الدراسة الإعدادية عندما عقد مؤتمر قمة الجامعة العربية في الثاني من نوفمبر ببغداد عام ١٩٧٨ فألبسونا ملابس خاكية، وأجلسونا في طريق المطار، وحين سألنا عن المهمة الموكلة إلينا، قيل لنا: الترحيب بضيوف العراق من ملوك، ورؤساء دول، وبقينا على هذه الحال لأيام، لانترك المكان إلا في المساء، ومن بين من مرّ من أمامنا كان موكب جلالة الملك الحسين، وحين أشرنا لجلالته ابتسم لنا ورفع يده ملوّحا بالتحية، ورغم أنّ المشهد لم يدم سوى لحظات لكنه كان كفيلا بأن يظل مخزونا في الذاكرة، فالفرص ليست متاحة دائما، لرؤية ملك، لكنني خلال جولتي في متحف السيارات الملكي لم أشاهد ملكا، بل شاهدت تاريخ دولة، جعل المتحف الذي يُعدّ أول متحف للسيارات الملكية في عالمنا العربي، ولم تكن زيارتنا مجرد سياحة في متحفٍ صار قبلة لمحبي السيارات الكلاسيكية، بل جولة في تاريخ الأردن السياسي، منذ عهد الملك المؤسس عبدالله الأول، وحتى جلالة الملك عبدالله الثاني، مع التركيز على فترة حكم الملك الحسين بن طلال التي امتدت لـ47 عاما، وهو المعروف عنه ولعه بقيادة السيارات، والدراجات وكذلك الطائرات.

والجميل في المتحف أنّ الكثير من السيارات رافقتها صور، ومقاطع فيديو، استعانت إدارة المتحف بها من الآرشيف، تعرض تلك المقاطع بعض الأحداث المهمة التي جرت على متنها، والخطابات، ومن بينها مقطع عودته الأخيرة من رحلة العلاج، وموكب استقباله المهيب، وحين ينتهي المقطع تبقى عيوننا شاخصة على السيارة الواقفة التي شاركت في صنع الحدث، وفي أحد المقاطع يظهر الملك الحسين واقفا ببدلة رياضية إلى جوار دراجة نارية، من نوع درّاجات السباق، فيرتدي قفازيه، ويضع على رأسه الخوذة، ثم ينطلق في طرق متعرجة، خطيرة، فيما تبقى الكاميرا تتابعه، وحين ينتهي الفيديو نرى أمامنا الدراجة نفسها، وعلى الحائط ، وضعت إدارة المتحف، القفازين والبدلة، إضافة إلى ذلك، شاهدنا في المتحف سيّارات قديمة تم اقتناؤها للعرض، ونسخا طبق الأصل من سيارات ودراجات قديمة من بينها سيارة بنز التي تعد أول سيارة عملية، يعود تاريخ صناعتها إلى العام 1885م والسيارة المدرعة (رولز رويس) التي جرى تصنيعها عام 1915 م.

لاحظت أن جميع المعلومات المتعلّقة بها مدوّنة على لوحات مثبّتة جوارها، كما شاهدنا مجسمات لواجهات بقالات قديمة لبيع المواد الغذائية، وفندق من الفنادق الأردنية القديمة ليستنشق الزائر عبق ماضي المملكة من خلال محتويات متحف ويقرأ سطور تاريخ جرى تدوينه على ظهور سيارات توقفت محرّكاتها سوى عن سرد أحداث خالدة، تدلّ على رجال صنعوا تاريخ المملكة، يقول الشاعر:

تلك آثارنا تدلُّ علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار

وفي زيارتنا لمتحف السيارات الملكي، قرأنا، جانبا مهمّا من ذلك التاريخ، واقتفينا مسالك الملوك.

شاهد أيضاً

أوبرا غارنييه … جولة في دار الأوبرا الفرنسية بباريس

عدد المشاهدات = 169 بقلم الكاتبة/ هبة محمد الأفندي دار الأوبرا الفرنسية بباريس المعروفة بأوبرا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.