الأحد , 19 مايو 2024

أسماء خليل الجبوري تكتب: أوراق طفولتي!

= 2151

Asma Khalil Gabory


أولد بين أسراب الزمن بصرخة الوجود وفرحة انبثاق فجري … برقتي المفعمة أدغدغ طيات اللحظات ، أهب ابتساماتي للذاهب والآتي ، كل معاناتي حاجتي لطعامٍ يقيم جسمي
وحين يتغلغل النعاس بين رموشي ، لغتي الوحيدة وكلماتي الأكيدة ، ابتسامة وبكاء ، لا أكترث لمن يؤويني ويمنحني حنان الحضن والابتسامة والكلمة ، أيهم يكون سيان ، اماً ،
أباً أو حتى غرباء .

أناغي لأراقص جوي الملائكي وتتراكم أجوائي في أحضان مخيلتي الرقيقة التي تغتني مع مرور الوقت … هذه بداياتي ويا ليتني أعيشها نهاية.

هذه بدايتي الى أن شعرت فجأة أني أتمرد على طفولتي وأنثر وريقاتها في الطرقات، لم أعِ ما سر هرولتي في شوارع المدينة الا أنني مسير الذات من قبل احدهم ، لا أعرف
حقيقة كنهه لكني اناديه ابي واناديها امي .

شعرت ودون شعور ان صباحي الوردي المبتسم صار يتناثر على ارصفة الطرقات بين برد ومطر وبين شمس واحتراق ، وبدأت لا أحظى بابتسامة تلك المرأة الحنون ابتسامةً
تسعد صباحي وصدر بين حناياه اماني وارتياحي .

فأدركت أنه زمن الخسارة قبل الربح وأنا أحمل علبة المناديل الورقية الملونة كي أمضي لبيعها ينهكني التوسل بامرأة أو رجل ، لكنها لم تجدِ نفعاً كل توسلاتي الا بالنزر اليسير.

وهناك على الرصيف الآخر يحاول رفيقي عابثاً اقناع المارة بشراء درزينة العلكة التي يحملها دون جدوى فحتى الاطفال من عمرنا أعتزلوا تناول هذه العلكة فما يتناولونه ابهض ثمناً
وأرقى نوعية، وكبرياؤهم يمنعهم تناول العلكة من يديه التي رسمت عليها الشمس خطوطها السوداء.

وبين مرح افكاري الطفولية في رأسي وبين عبث عبء الشارع على جسدي الصغير الضعيف المنهك يترجل ذاك الرجل الأنيق من عربته وتراقص عطره في كل الاجواء حوله شد اكبر انتباهي
ليتناول منديلاً ناصع البياض من جيبه المترف بكل حضارات الزمن لينظف زجاج سيارته وترتسم على محياه لوحة الضجر والملل وبعد انتهائه اربت على سترته اللماعة السواد
ليطرد الغبار عنها وبقايا اكتراثه وضجره ، ساقتني قدماي اليه دون وعي الا انه ذهب مع ريح الاشارة المرورية الخضراء.

ذهب وترك في نفسي رغبة تجربة أخرى وغروب الشمس كان موعدي لشراء اشيائي الجديدة بثمن ما بعته من علب المناديل الورقية. فمهمتي وتجربتي الجديدة تنظيف زجاج السيارة مقابل ما يمليه ضمير صاحبها عليه.

بدأت سباقي مع اصحابي للفوز السريع والحصول على فطوري وعند انتهائي وأنا أمضغ لوثة الحزن بكل البراءة أعود لألحق سفري بين خطوط المرور القاسية متأملاً وجوه الرجال ليت هذا يكون ثملاً فيهبني دون وعي … ليت ذاك ورعاً يمنحني زيادةً عنه.

يحاكيني رذاذ الماء على الزجاج في هراء ما أفعل ولا أحصل بعده إلا على وجه عبوس يوميء برأسه أن ابتعد فلا حاجة لي بما تفعل ، فأعود بخطاي المتألمة أستكين لبرهة شعوري بالأسى فأفز بكل نشاطي  لمغامرة أخرى .
أكثر ما يسعدني أن اجد السائق برفقة امرأة حبيبته على الأكثر فيعطيني متباهياً أو ربما بغية ابعادي كي ينهي اقتحام خصوصيته أو خلاصاً من منظري فما ارتديه من خرقة بالية
تحمل اوزار العبء والاتساخ ما يكفي الاخرين لعدم رغبتهم برؤيتي .

أكمل رحلتي باحثاً عن شبرٍ يؤويني لالتهم غدائي على عجل فتضيق الشوارع بما رحبت بين حر وبرد … احتراق ومطر.
يهمهم صدري كم جنيت هذا النهار ؟
أيكفي أماً سقيمة طريحة الفراش لشراء دواء؟
وهل يكفي أخي الصغير لاشتري له اللبن؟
أم أنه لا يكفي ابي العاجز على فراش الموت ليسد حاجة جوفه المهتريء؟

واعود تتقاذفني أوهامي وظنوني بين فرحتي وأنيني آوي الى فراشي الذي لا يكاد أن يمنع حر الارضية وبردها ، ألتحف مرارة يومي بأنفاس تفر من صدري تارة وتعود بحلاوة المكسب تارة اخرى.
أحدق في سقف كوخي الذي حاربته الايام واخذت من جسده الكثير وكأن العمر يسري بي ليأخذ نصيبه من جدرانه .

أتأمل في من أنا ؟
سؤال كثرما يقض مضجع براءتي وصفوي .
هل وجدت متشرداً على الطرقات؟
أم ابن حرام قذفته غانية في سلال القمامة ؟
أم تراني مجرد ابن عائلة مسكينة نال الفقر منها نصيبه الكبير ؟

هذا الفقر الذي حرم أمي حنانها لي وصادر خوفها علي وتغلف قلبها بقسوة الزمن وحرقة الحرمان وصرت أنا الضحية وصارت طفولتي المدفونة بين طيات معاناتي هي الثمن والحل .

صدقوني لا اعرف فك الحروف فمثلي لا يحق له التعلم ولا اعرف أن اقبل يدي أمي مثلكم وأجهل احترام ابي فالخوف فقط نقطة الوصل بيني وبينه.

كل ما اعرفه حروف ألفظها كي اكسب عطفكم فتمدون ايديكم الى جيوبكم لتعطوني ما تريدون لا ما اريد انا … فأغفو على تلال خيالاتي لأصحو على صبح جديد لا يختلف اطلاقاً عن صبح سبقه.
—————-
أسماء خليل الجبوري، كاتبة وشاعرة عراقية

 

شاهد أيضاً

إنجى عمار تكتب: التحلي والتخلي

عدد المشاهدات = 2972 نقطة واحدة فارقة كالحجر الصوان ارتطم بها رأسنا لنعيد اكتشاف أنفسنا. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.