في غرفةٍ ضيقة لا تُغلق أبوابها جيداً، ولا تُفتح نوافذها تماماً، وُضِعَت مرآتان متقابلتان، كأنهما عينا الحقيقة، تراقبان من يسكن المكان، أو من يحاول أن يسكن نفسه. كل مرآة تعكس وجهاً لا يشبه الآخر، وكل انعكاس يسرد حكاية رجلٍ واحد في حرب لا يشترك فيها أحد.
استيقظ متأخراً، كما لو أن الليل لا يزال جاثماً على صدره، لم يكن الصباح أكثر من وهمٍ يتسلل من ثقبٍ في الستارة الممزقة، ضوء خجول، كأنه يعرف أنه غير مُرحب به هنا.
استيقظ من سريره بثقل ميتٍ أُعيد إلى الحياة دون رغبته، جسدٌ ينهض لا ليعيش، بل ليؤدي واجب التنفس.ط، توجه إلى المرآة لا لينظر، بل ليبحث عن دليل على أنه ما يزال هنا، وجهه الذي عرفه يوماً، أحبه، وثق فيه، تغيّر، صار غريباً، كأنه استعارة من جسد آخر أنهكه السفر، لا عبر البلاد، بل عبر خيباتٍ متكررة وأيامٍ لم تُعش كما يجب، سأل المرآة هامساً:
“من سأكون اليوم؟”
فأجابت بالصمت، كأنها تُخبره أنه لم يكن يوماً أحد.
يسكن داخله رجلان يتناوبان عليه كما يتناوب الليل والنهار على مدينةٍ لا ترى الشمس.
الأول: حالِمٌ، ثائرٌ، يرى في الغد خلاصاً، وفي الكتب التي لم تُكتب بعد فرصة لخلود اسمه.
الثاني: ساخرٌ، قانط، يجذبه السرير، يهمس له أن لا أحد ينجو، وأن النجاة مجرّد إعلانٍ كاذب.
الأول يحجز تذكرة إلى حياةٍ جديدة، والثاني لا يغادر الجدران.
جلس يكتب:
نظّف الغرفة
اتصل بالعائلة
تناول طعاماً حقيقياً
اخرج ولو لخمس دقائق
لكن الورقة بدت له كوصية، أو نعي مبكر لأمنياتٍ لم تولد، طواها كما تُطوى الاعترافات، ووضعها جانباً، حيث لا يد تطالها.
رن الهاتف، الاسم على الشاشة مألوف، كأنه من بقايا حياةٍ أُطفئت فجأة، لم يُجِب، ليس لأنه لا يريد، بل لأنه خائف، من ماذا؟ من أن يُكتشف أنه ما زال حيّاً؟ أم من أن يسمعه الآخر فينكسر صوته؟
ترك الهاتف حتى سكت، كما تسكت القلوب حين لا تجد من يسمعها.
مرّ اليوم كما تمر الأيام حين لا تكون أنت فيها، ثقيلاً، متكرراً، ومكرراً، كأنك تسير في مشهدٍ مُعاد، تعرف نهايته وتحفظ تفاصيل فشله.
في المساء، ارتدى قميصاً نظيفاً، لا ليلتقي بأحد، بل ليقنع نفسه أنه يستحق أن يستعد، فتح الحاسوب، ألقى نظرة على مشروعٍ كان يوماً شرارة حماسته، ثم أغلقه، ليس لأن المشروع سيئ، بل لأنه لم يعد يصدّق أنه قادر على الحلم.
اقترب الليل من منتصفه، فعاد إلى المرآة، لا ليرى وجهه، بل ليرى من خلف العينين، لم يجد أحداً، أو ربما وجد كثيرين منه.
كلّما اقترب من ملامسة ذاته، ظهرت له نسخة جديدة، برغبةٍ أخرى، بصوتٍ آخر، بخوفٍ مختلف، كان جسده مأهولًا، لا بالأشباح، بل بأناه المتكررة، كل واحدة تريد أن تكون، وكل واحدة تقتل الأخرى.
جلس على السرير، تناول دفتراً تمزقت صفحته الأولى، وكتب كما يكتب المنهارون:
“أريد أن أكون كل شيء… لكني بالكاد أتحمل أن أكون نفسي.”
ثم أغلق الدفتر كمن يدفن جثة، ووضعه تحت وسادته، نام، أو حاول أن يغرق في النوم، لكن الصوتين بداخله ظلا يتجادلان، كلٌ منهما يزعم أنه الحقيقة، وكلٌ يتجاهل أن هذا الجسد – هذا الممر الضيق بين الحياة والموت – لم يعد يحتمل أحداً منهما.
وفي الغرفة، حيث المرآتان، ظلّت كل واحدة تعكس رجلاً مختلفاً… ولا أحد منهما كان هو.