السبت , 18 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: مكتبة بأرفف مخمليّة

= 1282

razaq(1)


منذ سنوات بعيدة، كسائر أبناء جيلي، قرأت للكاتبة غادة السمان، ومع مرور الوقت ، ظلّ شغفي بكتاباتها مستمرّا، رغم أنّ الكثيرين ممّن كنت أقرأ لهم في سنوات عمري الأولى لم تعد كتاباتهم تثير اهتمامي ، وقد بدأت هذه المتابعة منذ قرأت مجموعتها القصصية الأولى"عيناك قدري"، التي ظلّت تتصدّر واجهات المكتبات العربيّة ، إذ كان الطلب على كتابها مستمرا لسنوات طويلة، منذ صدوره عام1962 م، ثمّ أعقبته بـ" لا بحر في بيروت"، و"ليل الغرباء"، و"رحيل المرافئ القديمة"، ورواياتها "بيروت75" و"كوابيس بيروت" و"ليلة المليار"، ولم تكتف بالسرد ، فقد كتبت الشعر، ولها في ذلك أكثر من ديوان، لعل أهمها" عاشقة في محبرة" :

"أريد أن أحدّق في ابتسامتك
كما في وردة نبتت من رغيف"

وعلى هذا المنوال، تنساب جملها الشعرية كماء في جدول، مقتصدة في مفرداتها ، لترسم الدهشة:

"حين تهبّ رائحة عطرك
يكشف الهواء مجده"

هذه الجمل تقترب من الإيكو الياباني، في عمق المعنى، وكثافة الألفاظ ، وفي بعض الأحيان ، تلجأ للمفارقة ، وحس ّالسخرية ، فتدوّن:

"حين أموت اكتبوا على قبري: هنا ترقد غلطة مطبعية"

ويكاد رأيي بالسمان يتطابق مع رأي الشاعرة سعديّة مفرّح التي ترى إنّها " مبدعة كبيرة، ومختلفة، ولم يكتب عنها حتى الآن ما تستحقه من كتابة، ولم يحتف بها، وبأدبها كما يليق بهما للأسف"، وهو اهمال تشترك به السمان مع الكثير من الأدباء العرب، لأسباب سياسيّة، واجتماعيّة، وحضاريّة، تتعلّق بمكانة الكاتب في مجتمعاتنا العربيّة، والظروف التي تمرّ بها أمّتنا منذ عقود!!

ويأتي كتاب الشاعر، والناقد عذاب الركابي "غادة السمان..امرأة من كلمات" محاولة للاحتفاء بنتاج هذه الكاتبة التي تتميّز بلغتها الشعريّة الأنيقة، وجرأتها، ومعالجتها لقضايا المرأة وفق منظور اجتماعي ، ونفسي ، ولكن ما الذي جعل الركابي يقوم بهذا "الاحتفاء الرؤيوي " كما يصف عمله ؟

يجيب الركابي ببضعة سطور وضعت على  الغلاف الأخير للكتاب الصادر عن دار (غراب) للنشر، والتوزيع في القاهرة "إن  غادة السمان ليست كبقية الكاتبات ، كونها " تعقد حلفا دهريا مع الكلمات" لذا فـ"كلماتها، وأعمالها ، وابداعاتها تمرين صوفي على الولادة، والموت،والفرح "

وبلغة احتفاليّة، فيها الكثير من روح الشعر، وتحليقاته، يصفها بأنها"مكتبة بأرفف مخملية، وإذا ما اندلع حريق في غرف الوقت، فإن كلماتها تطير بأجنحة الرؤى والأحلام لتخلد في مكان فضاء آخر، حدائق بعطر المدى والأزل"

لقد قسّم الركابي كتابه إلى ثلاثة أقسام هي: القراءة النقديّة، وشهادات في إبداع غادة السمان، وحوار مع الكاتبة ،محاولا إلقاء الضوء على تجربتها، والركابي حين ينبري ناقدا لنص، فإنّه ينشىء نصّا موازيا مكتوبا بلغة فيها الكثير من ماء الشعر، فتاتي على هيئة تجليات تنطلق من روح النص، وما يخلّفه من معان، وما يحدثه من أثر في النفس، يقول الركابي معلّقا على ديوانها" عاشقة في محبرة" " غادة السمان تعزف بالكلمات، وهي تنتحر تارة، وتارة أخرى تلمّ أجزاء جسدها الناحل، بابتهال كوني موجع، فتقرأها متسلحا بشقاوة العواصف ، ثم تخلد للراحة مطلقا فراشات بهجتك اللؤلوية ،فتكون أصابعة قد استعادت ثمار فوضاها ،وجنونها الضروري، وقد هيأت عشب ذاكرتك لمطر هذه الأبجدية الموحية" ،وغالبا ما تكون تلك السطور مؤثّثة بمقولات لكبار الكتّاب ، يضعها كعلامات على طريقه، تلك المقولات تعكس ثقافته، وسعة  اطّلاعه  .

اشتمل القسم الأول على أربع قراءات نقدية حملت العناوين: عاشقة في محبرة :غادة السمان، والعزف بالكلمات، و"القلب العاري عاشقا"، والرواية المستحيلة – الفسيفساء الدمشقية، و"يادمشق وداعا "، وتضمن القسم الثاني شهادات لعدد من الأدباء، والنقاد، فيما خصص القسم الأخير لحوار طويل جديد لم ينشر أجراه الركابي مع السمان وتضمّن الكثير من الآراء في الكتابة، والحياة، مؤكدة انحيازها للفن الخالص، وحين تتكلّم غادة، فإنّها تسكب من لغتها، وروحها في إناء الكلام ، وتتجلّى، إذ تقول" لا فرق عندي بين الكتابة على ورق البردي الفرعوني ، أو على شاشة الكمبيوتر، أو من يكتب الرواية ، أو الشعر، المهم دائما الشحنة الإبداعية، والشرر المتطاير من الروح عبرها" من قناعة لديها بأن " الرداء لا يصنع الراهب ، والإناء الكريستالي لا يحتوي بالضرورة أجمل الأزهار، الإبداع، هو المطلوب أولا ، إنه اقتراف التجديد في روح الأدب، وذلك عبر فضاءات لم تخطر ببال"

الكتاب بمجمله هو احتفاء شخصي من شاعر وناقد عراقي حاول انصاف كاتبة قال عنها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ذات يوم" أنا معجب جدا بما تكتبه غادة السمان، قرأت لها ،فدهشت، وافتخرت بنفسي، وبأن يكون للأمّة العربيّة كاتبة مثل غادة السمان"، عسى أن تنتبه المؤسسات الثقافيّة لتكرّم هذه الكاتبة التي ما زالت تواصل رحلتها مع الكلمات.

————–
* كاتب وشاعر من العراق.

شاهد أيضاً

إنجى عمار تكتب: التحلي والتخلي

عدد المشاهدات = 1273 نقطة واحدة فارقة كالحجر الصوان ارتطم بها رأسنا لنعيد اكتشاف أنفسنا. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.