الأربعاء , 15 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: لبسوا الثياب البيض ..!

= 1806

razaq(1)


في مثل هذه الأيام من عام 2007م كنت في البقعة الطيّبة التي  باركها الله تعالى ببيته الحرام ، أقف مجلّلا بالبياض، في  أشرف مكان في الأرض تهفو له الأفئدة، أطوف مع الطائفين ، وأصلي في بيته مع المصلّين ، وأسبّح وسط عشرات الآلاف من الحجّاج مع المسبّحين، وأحلّق في فضاءات روحيّة مع المحلّقين، متضرّعا ، رافعا يديّ بالدعاء للمولى مع الداعين .

لم يكن ذلك اللقاء هو الأول لي، فقد سبق أن تشرّفت بالمثول في حضرته  عام1984خلال مشاركتي بمهرجان الشباب العربي الذي أقيم في الرياض، وأستثمرت تلك الفرصة لأعتمر، وأزور جدّة ، ومكّة المكرّمة، والمدينة لكنّني شعرت ،حين ذهبت  للحجّ ، بأنني أزورالمكان المقدّس  للمرّة الأولى ، هذا الشعور تجدّد معي، حين اعتمرت قبل عامين ، لأنّه  حجز له مكانا خاصّا في وجداننا ، وذاكرتنا لما له من مكانة تاريخية، مليئة بالأحداث التي جرت في تلك البقعة من الأرض ، وأذكر إنّني ،في المدينة المنوّرة ، وقفتُ  على جبل أحد، فالتقط صديقي د.صلاح حزام حصاة ، سألته "ماحاجتك لحصاة مغمورة وسط أكوام الحصى المتناثر في العراء ؟ أجاب :" لكلّ ذرّة في هذا المكان هيبة، فربّما وضع أحد الصحابة قدمه الطاهرة عليها "،سألته" هل هناك ما يؤكّد صحّة كلامك؟ " أجابني" كلّ شيء محتمل، وجائز، ما دمنا في مكان له عمق تاريخي، وطالما لا يوجد هناك ما ينفيه "، ثمّ لفّها بمنديل ورقي بعناية ،ووضعها في المكان الملاصق للقلب .

وفي مكّة المكرّمة ، حين نظرت للمرّة الأولى إلى أستار الكعبة التي تشخص بها أبصار ملايين المسلمين في بقاع العالم، استحضرت المعلّقات ، التي علّقت عليها قبل أن تعلق بالقلوب، كما يؤكّد الدارسون، تخيّلت الفرزدق يقف مشيرا إلى علي بن الحسين ، في حضرة هشام بن عبد الملك مجيبا عن سؤال لرجل من أهل الشام لاحظ المهابة التي تحيط به :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته  والبيت يعرفه والحلّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلّهمو  هذا النّقي التّقي الطاهر العلم

في تلك الأيّام، وأنا أتجرّد من كل شيء ليغمرني البياض  تخيّلت الملوك الذين تخلّوا عن تيجانهم، وملابس الحرير، مكتفين بالبياض، تخيلت رؤساء الدول، والخلفاء ،والشعراء، والأمراء، والمفكّرين ، وعلماء اللغة، وقادة الجيوش الذين خلعوا أوسمتهم، وذابوا في الحشد، مع الطائفين، الأغنياء يسيرون جنبا على جنب مع الفقراء، إذ الجميع سواسية، يقفون بلا رتب، ولا جاه، ولامال ، كما سنقف جميعا  يوم القيامة ، تذكّرت الآية الكريمة من سورة الأنبياء "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين"

في ذلك العام حجّ معنا سياسيّون ، وفنانون ، وشخصيّات لامعة، ضاعت لمعتها وسط الزحام، فعيون الجميع متّجهة  إلى السماء  مرتقية سلالمها ، ولم أر وسط الزحام سوى رجل الدين الشيخ حسين فضل الله ، رحمه الله ،حين كان يطوف ، ولم أنتبه لولا أنّ مجموعة من الحجّاج اللبنانيين لمحوه، فوقفوا يحيّونه، ثم ردّدوا شعارات، لم تلبث أن هدأت بعد أن حضرت قوّات الأمن .

وظلّ ذلك الحدث الذي لم تنتبه له وكالات الأنباء يتيما، ففي ذلك الموقف، يكون المسلم في حالة صلاة عميقة تمتدّ لأيّام، إذ يتوجّه بشكل كامل إلى خالقه، فيقف بين يديه، داعيا، ومسبّحا، معلّقا روحه بأهداب المطلق، لذا يرتفع عن سفاسف الأمور ،وتصغر في عينه المصائب، ويستغرق في حوار عميق مع الذات ، كثيرون حين يعودون من ذلك المشهد يجدون أرواحهم أكثر نقاوة، وصفاء، فيغيّرون ممارسات اعتادوا عليها في حياتهم السابقة.

وفي هذه الأيّام يظلّ قلبي ،مع ملايين المسلمين  معلّقا على أستار  البيت المقدّس ، فأردّد قصيدة  الشيخ عبد الرحيم البرعي التي دوّن فيها لهفته لزيارة الديار المقدّسة:

يا راحلين إلى منى بقيادي    هيجتمو يوم الرحيل فؤادي

إلى قوله:

من نال من عرفات نظرة ساعة  نال السرور ونال كل مرادي

تالله ما أحلى المبيت على منى  في ليل عيد أبرك الأعيادي

ضحوا ضحاياهم وسال دماؤها  وأنا المتيم قد نحرت فؤادي

لبسوا الثياب البيض شارات اللقا  وأنا الملوع قد لبست سوادي

وتظلّ "الثياب البيض" غير المخيطة علامة بارزة من علامات تلك الأيّام في تلك البقعة المباركة ،  تلك الثياب تحمل الكثير من الإشارات أبرزها الصفاء ، ونقاء السرائر، والقلوب .

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: الاحتلال بالأفكار وليس بالسلاح (١)

عدد المشاهدات = 1644 التاريخ يؤكد أن جميع القوى العظمى التى احتلت غيرها من الدول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.