الأربعاء , 15 مايو 2024

عبدالرزّاق الربيعي يكتب: “باريس ملجأ” لا مقبرة..!

= 1432

Abdul razak Rubaiy


خلال حديث لي مع الراحل عبد الرزاق عبد الواحد قبل سنوات، وكان حينها يقيم في دمشق، سألته عن المكان الذي سينام به نومته الأبديّة، ولم أشأ أن أجرحه، فجاء سؤالي بالصيغة التالية: ألا يرعبك أن دمشق أصبحت مقبرة لشعراء العراق الكبار؟

فكان جوابه "طبعا، فآخر من دفن فيها يوسف الصائغ الذي مات على يدي!! ، وقبله مصطفى جمال الدين، والجواهري، والبياتي، وبقينا أنا، ومظفر النواب!!"، ففهمت من جوابه أنّه يتوقّع أن يدفن في دمشق، وهذا ليس بالأمر الجديد، فالكثير من الشعراء  دفنوا خارج أوطانهم كالذين ذكروا من الشعراء العراقيين، والأجانب كالتركي ناظم حكمت الذي مات في موسكو، ودفن في "مقبرة نوفودوفيتشى" الشهيرة.

وحين سألته عن باريس أجاب: "باريس ملجأ.. ففرنسا منحتني إقامة بعيدة المدى يوم تلفّتُ فلم أجد في كل الوطن العربي ملجأ يؤويني إليه! وكنت آمل من كلّ قلبي أن تكون إقامتي في الوطن العربي، وسيظل هذا الجرح ينزف دما، جرح أن أتلفّت الى وطني، فلا أجد من يمدّ لي يديه، ولم أجد من يوفّر عليّ أن ألجأ إلى بلد غريب".

وحين ساءت الأوضاع في دمشق، وتراجعت  قبل ذلك صحّته، وجد نفسه مضطرّا للانتقال إلى عمّان، فاحتضنه مثقفوها، وأهلها، وظلّ قلبه معلّقا في تراب العراق، وكان يقاوم فكرة الموت في الغربة كما ذكر في رسالة له (لا أريد أن أموت في الغربة)، لكن للأقدار كلمتها الأخيرة، وسبحانه وتعالى يقول في الآية الكريمة {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}"( لقمان:34).

 فأغمض شاعرنا الكبير عينيه، وانطفأ سراج روحه، في عاصمة النور "باريس"، لكنّ عائلته دفنته فيها، مع أنّه أوصى أن يدفن  في عمّان، ليكون قريبا من وطنه، خصوصا أن ّ المنطقة واحدة، والأردن  جزء من الهلال الخصيب، فالأرض واحدة، والشعب واحد، والحضارة واحدة، ولا يبدو الفارق كبيرا لو دفن في بغداد، أو دمشق ،أو عمّان، وربّما ستتبدّل الأحوال، وتنقل رفاته إلى العراق كما حصل مع الشاعر والزعيم الليبي سليمان الباروني، الذي  أجبرته السلطات الإيطالية على مغادرة طرابلس، فتنقل بين تركيا وفرنسا، واستقر به المقام في السلطنة سنة 1924 وعين مستشارا للسلطان سعيد بن تيمور سنة 1938م حتى وفاته سنة 1940م في الهند أثناء رحلة علاجية من مرض الملاريا، فدفن هناك، وبعد استقلال ليبيا نقلوا رفاته إلى طرابلس، وطنه الأوّل ، حتى لو عاد إليه في كفن، أو قارورة، كما حصل مع المفكّر إدوارد سعيد الذي مات في أمريكا، وأوصى أن ينثر رماده في لبنان.

ويبقى الشاعر عبد الرزّاق عبد الواحد الذي تذكّرت بيتا للجواهري وأنا أطالع صورة جثمانه بالقبر :
فيم التحايل بالخلود وملهم
لحفيرة ومفكّر لتباب
أقول: يبقى علامة كبرى في مدوّنة الشعر العربيّ، وينبغي أن لا نقيّمه على أساس الاختلاف السياسي، بل تقديرًا لمنجزه الشعريّ.

شاهد أيضاً

داليا جمال تكتب: الاحتلال بالأفكار وليس بالسلاح (١)

عدد المشاهدات = 2043 التاريخ يؤكد أن جميع القوى العظمى التى احتلت غيرها من الدول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.