عنها، تلك التي كانت تهمس لنفسها دائماً ب “ولكن، ماذا عني؟”.. عن تلك الروح التي ظنت يوماً أنها أولى أولوياته، وأنه يشعر بنبض قلبها ويحتوي وحدتها. اعتقدت أن عاطفته تحتضن ضيقتها، وأنه يكون لها المرفأ الآمن في ساعات الحزن والانكسار. لكنها لم تكن تعلم أن وجودها كان آخر ما يشغل تفكيره، وأن أيامه تمضي كأمواج البحر دون أن يلتفت إلى ظلال حزنها المتراكم. ها هي الآن أصبحت سجينة عالمها الخاص والغريب، متشبثة بأفكار صاخبة تجول في رأسها كطواحين الهواء التي لا تتوقف عن اللف والدوران. حاولت أن تغيّر نمط حياتها، أن تجد لنفسها مخرجاً من تلك الدوامة، لكن محاولاتها كانت مؤقتة، وسرعان ما تتلاشى كالدخان في الهواء. فقد باتت غير قادرة على فعل شيء بمفردها في هذا العالم الغريب، وكأنها أصبحت شبحاً يتجول في صمت، باحثة عن نفسها بين أروقة الذاكرة والأمل الضائع.
كانت فيما مضى تجسد القوة المطلقة، تبحر في بحر الحياة بدون مرساة، وتواجه أمواج القدر بثبات دون الحاجة إلى يد تعينها. كانت كتلك الجبال الراسية، شامخة لا تهتز، لا تسمح لأحد أن يدرك مدى احتياجها، وكأنها جزيرة منعزلة عن بقية العالم. لكن الزمن غيّر مجراه، وأصبحت تجد صعوبة في مواجهته بمفردها. كُتب عليها حمل عالم جديد بكل تفاصيله، عالم يُثقل كاهلها، لا تستطيع أن تفارقه ولو لحظة. كانت ترى وتشعر بكل ما يدور حولها، تستشعر آلام الآخرين وأفراحهم، بينما لا يلتفت أحد إلى ما يحمله داخلها من حزن عميق.
اعطت الأولوية لكل شيء ولكل شخص، أما هي لم تكن يوماً من ضمن أولوية أحد، كالشجرة الوارفة، تمنح ظلها لكل من يمر بها، بينما جذورها تتألم في صمت. قلبها ينبض بالحب والعطاء، لكنها لم تجد من يبادلها نفس الشعور. كل ليلة كانت تبحث عن دفء يحتضنها في ليالي وحدتها الكئيبة، لكنها لم تجد سوى برودة الصمت. ترى نفسها مرآة للآخرين، تعكس لهم جمالهم وقوتهم، بينما تنسى نفسها في زاوية مظلمة. هكذا مضت الأيام، وهي تحاول أن تجد لنفسها مكاناً بين أولويات الآخرين وأولوياتها، لكنها كانت دائماً تجد نفسها في النهاية وحيدة في عالم لا يشعر فيه أحد بها، تماماً كالقمر في ليلة مظلمة، تضيء للآخرين طريقهم، بينما تبقى مُعلقة في السماء وحيدة. ترى نفسها كالشمعة التي تذوب لتمنح الآخرين ضوء دافىء، لكنها تنطفىء في نهاية المطاف.
هي تعرف أن الحياة ليست عادلة، لكنها لم تكن تتوقع أن تكون بكل تلك القسوة. كانت تأمل أن تجد من يشاركها همومها وأحلامها، لكنها وجدت نفسها في مواجهة الحياة بمفردها، بلا سند أو مُعين.
في النهاية، أدركت أنها يجب أن تكون أولى أولوياتها، أن تعتني بنفسها قبل أن تعتني بالآخرين. قررت أن تحاول تعلُم كيف تحب نفسها، كيف تضع نفسها في مقدمة أولوياتها، حتى تُصبح قوية من جديد، لتواجه هذا العالم بشجاعة وثقة. ورغم صعوبة الأمر، بدأت ترى النور في نهاية النفق، وبدأت تدرك أنها قادرة على التغلب على كل شيء، ما دامت تضع نفسها في أولى أولوياتها.